زارتني أمس الفنانة التشكيلية “إيثار عبد العزيز”، التي هدمت سلطات الخرطوم مرسمها.. وسردت لي الوقائع المحزنة التي تثبت أن وحدة قياس رشد الحكم المحلي يجب أن تكون بمقياس “ريختر” للزلازل.
لا أعلم السبب الذي يجعل السلطات المحلية- دائماً- نهمة جداً، ومتلهفة للهدم أولاً، ثم التفكير في حل المشكلة.. هذا منهج تفكير غاية في الـ (هولاكية).
أي مواطن سوداني من حق الدولة أن توفر له سبل كسب العيش، فإذا استرزق من دنيا الأعمال الحرة.. فلا يجب أن تطيح بعمله هذا سلطة إلا بعد أن توفر له البديل، وتتيقن من ملاءمته.
مثلاً.. رجل حصل على (كشك) لبيع الصحف.. وظل في مكتبته لعشرات السنوات.. وتطلبت الخطة العمرانية إزالة المكتبة.. فإن مسؤولية الحاكم أن لا يزيل مكتبته إلا بعد أن يكون في موقعه البديل الجديد، والتأكد من قدرته على مواصلة نشاطه التجاري في الموقع البديل.
هي مسؤولية الحاكم.. معتمداً كان أو والياً.. ألّا يوقف نشاط مواطن إلا بعد استقراره في النشاط أو الموقع البديل.
لكن قصة “إيثار” التي حدثت يوم الخميس الماضي هي بـ (الكربون) قصص الآلاف دمرت السلطات مواقع عملهم أولاً.. ثم التفت تسألهم بكل يباس عطف.. أين تريدون أن ننقلكم؟!.
كثيرون جداً احترقوا بنيران الظلم الحامية وربما ماتوا بحسرة في دهاليز الوطن العريض دون أن يسمع بهم أحد.
بالله عليكم تابعوا قصة “إيثار” هذه.. شيَّدت بعرقها المرسم الجميل في حدائق الهيلتون.. حملت الطوب على كتفها، وامتطت (السقالة) هي ومجموعتها حتى أكملوا مشروعهم ونجح.. لدرجة مشاركتهم في كثير من المناسبات الرسمية التي وجهت لهم الدعوة لتزيينها بلوحاتهم الجميلة.. بعد كل هذا ووسط دموعها وصراخها كانت (الكراكات) تدك المرسم، وتسويه بالأرض، بينما الأشاوس ينظرون ويضحكون من نواحها، ودموعها، وهستريا صراخها.
ما الذي كان يمنع أن توفر لها السلطات موقعاً بديلاً؟، صدقوني لا يحتاج الأمر إلى أكثر من خمس دقائق، وتوقيع بالقلم الأحمر.. لكن مفاهيم الحكم عندنا لا تنظر إلى مثل هذا الترف في الرشد.. بل وأجزم إن (متعة) الحكم لا تتحقق إلا عندما تراق على جوانبه الدموع.
وجانب آخر في حكاية إيثار.. كيف يستطيع المواطن المظلوم المغلوب على أمره الوصول إلى أولي الأمر.. أصحاب القرار العالي؟.
هناك طريقة اتبعتها “إيثار”.. الوقوف طوال ساعات النهار أمام سيارة المسؤول.. ثم خوض معركة شرسة مع أطقم الحماية، والسكرتارية، والمرافقين للمسؤول، الذين يدركون أن نجاحهم في عملهم بقدر نجاحهم في إبعاد المتطفلين (من الشعب).
كيف يستطيع المواطن العادي الوصول إلى أذن المسؤول العالي دون إراقة كرامته، أو عرقه في الانتظار المذل؟.
صدقوني هناك ألف وسيلة حضارية ونظيفة وسهلة.. لكن المشكلة ليست في الوسيلة.. بل في مفاهيم الحكم عندنا.. التي تعدّ النزول إلى مستوى المواطن العادي هتكاً لوقار وهيبة الحكم.
وعلى رأي المجنون الذي رآه البروف عبد اللطيف البوني في (صينية) المرور يردد (ما أسوأ أن تكون شعباً)!.
عثمان ميرغني
صحيفة التيار