نشبت الأزمة بين الحكومة المصرية وبين الحاكم العام الإنجليزى للسودان المعين بقرار من الحكومة البريطانية، حول وضع القائد المصرى فى الخرطوم الذى يقود خمسمائة جندى مصرى تحت قيادة الحاكم العام، فوفقا لنظام البروتوكول فى سراى الحاكم العام تقرر أن يدخل القائد المصرى إلى السراى فى الحفلات الرسمية من الباب رقم 2، لكن القائد المصرى احتج وأصر على أن يدخل مع كبار المدعوين من الباب رقم 1.
دارت المباحثات حول الأزمة، وطالبت الحكومة المصرية بدخول القائد المصرى من الباب رقم 1، وتناولتها الصحف المصرية، وتخيل الكثيرون أن الحرب ستقوم بين مصر وبريطانيا، أو أن مصر ستقوم بعزل الحاكم العام نتيجة هذا، وفى النهاية اقتنعت بريطانيا بأن القائد المصرى يجب أن يدخل فى حفلات الحاكم العام من الباب رقم«1»، فهدأت الأزمة التى وقعت قبل ثورة 23 يوليو 1952 ويرويها «صلاح سالم» عضو مجلس قيادة ثورة يوليو فى مذكراته «الهيئة المصرية العامة للكتاب – القاهرة».
تولى «سالم» ملف علاقة السودان بمصر بعد ثورة يوليو، وانتهى إلى حصول السودان على استقلاله بعد أن ظل تابعا للسيادة المصرية منذ أن أخضعه محمد على باشا إلى حكمه عام 1820. ويذكر سالم قصة خلاف البوابات كدليل على أن سلطة مصر على السودان كانت: «مظاهر، شكليات، قشور، كلها لا تقدم ولا تؤخر من الحقيقة الواقعة وهى أن السودان انفصل منذ عام 1899 رغم إصرار الساسة المصريين على مواجهة شعب مصر فى كل خطبة سياسية أو حفلة انتخابية أو خطاب عرش بأن السودان جزء لا يتجزأ من الأراضى المصرية، لم يقولوا قط إنهم باعترافهم بوفاق 1899 قد قبلوا حكم إنجلترا وحدها واقعيا للسودان، ومكنوها خلال عشرات من السنين من فصم كل رابطة وتدمير كل علاقة بين القطرين، أصبح القضاء فى السودان دوائر من القضاء الإنجليزى، وقامت الحرب العالمية الثانية، ووقفت مصر بجيشها على الحياد حتى انتهائها، أما السودان الجزء الذى لا يتجزأ من مصر أرسل جيشه إلى الكثير من ميادين القتال تحت الراية البريطانية، مما يؤكد أن السودان كان فعليا تحت الحكم البريطانى، وحسبما يقول محمد فؤاد شكرى فى كتابه «مصر والسودان» «دار الكتب والوثائق القومية–القاهرة»: «أعطت هذه الاتفاقية لبريطانيا سلطة تعيين الحاكم العام للسودان، ولا يسرى على السودان أى قرار تصدره الحكومة فى مصر».
هكذا ترد وقائع التاريخ على مزاعم تفريط ثورة 23 يوليو 1952 فى السودان، ويتجاهلون أن اتفاقية تقرير مصير السودان التى وقعتها مصر وبريطانيا يوم 12 فبراير «مثل هذا اليوم» 1953، كان الغرض منها «إجلاء كل نفوذ أجنبى عن السودان خلال مرحلة انتقال فى سبيل تهيئة جو حر محايد يقرر السودان فيه مصيره دون أى ضغط أو تأثير من دولتى الحكم الثنائى بتعبير «سالم» فى مذكراته.
كانت اتفاقية «تقرير المصير» حصيلة جهود «اللجنة الخاصة بالسودان» التى شكلتها ثورة يوليو، وضمت، صلاح سالم، حامد سلطان، حسين ذو الفقار صبرى، والسفير على حسنى زين العابدين، ويذكر«صبرى» فى «ثورة يوليو واتفاقية السودان» «الأعمال الكاملة -الهيئة المصرية العامة للكتاب–القاهرة» الخطوات التى قادت إلى الاتفاق، وأهمها حشد القوى السياسية والقبائل لصالح المشروع المصرى الذى يحافظ على وحدة السودان، ويعطى أهله سلطة إدارته، فى مواجهة المشروع البريطانى الذى يطالب باستمرار الموظفين البريطانيين فى السودان إلى مدد طويلة لا تقل عن عشر سنوات بما يعنى بقاء الإنجليز فى الحكم بطريقة أخرى.
وكذلك إصرار البريطانيين على إقامة كيان منفصل فى الجنوب، وقدموا وثائق تزعم أنها رغبة القبائل الجنوبية، فقرر«سالم» السفر من الخرطوم إلى مديريات الجنوب حتى يتحقق، وحسب «ذو الفقار»: «تنقل بين معاقل القبائل يجتمع بالزعماء فيستميلهم بألمعيته المشهودة وبقدرته الفائقة على الإقناع، وكانت نقطة التحول الحاسمة اجتماعه بزعماء قبائل «الدنكا» التى تكون الغالبية العظمى من الجنوبيين على امتداد المديريات الثلاث، وجهزوا عرضا لرقصات الحرب احتفاء بالزائر الكبير المقبل إليهم، وإذا به يتجرد من ملابسه، وينخرط فى زمرة الراقصين، كما لم يفعل أحد من السادة الإنجليز المتعجرفين، وتطير الأنباء على امتداد المديريات الجنوبية الثلاث، فيهلج الجميع باسمه وكأنه أسطورة الأساطير، وأصابت رحلته النفوذ الإنجليزى هناك بضربة فى الصميم».
ذات يوم
-اليوم السابع