فرحة معظم السودانيين بهزيمة مصر أمام الكاميرون في نهائي بطولة الأمم الأفريقية بالجابون ، عكس حالة الطلاق الباين في علاقة الكثير من السوانيين في جنوب الوادي مع المصريين في شمال الوادي ،
حالة الاستياء التي تعتمل في نفوس معظم السودانيين من المصريين مردها منهج التعالي الذي ظلت تمارسه مصر مع السودان سواءً على صعيد أنظمة الحكم أو حتى على صعيد العلاقات الحياتية التي تربط الشعب المصري بنظيره السوداني .
تراجع تقدير الشارع السوداني لنظيره المصري وصل قمته عندما تعرض مواطنون سودانيون بمصر لمعاملة سيئة وصلت حد السجن والتعذيب ، هذا فضلا عن نهب ممتلكات وأموال الكثير من السودانيين الذين يزورون مصر بغرض التسوق أو تلقي العلاج ، ولعل توقيف السلطات المصرية لمعدنين سودانيين واحتجاز معداتهم كان بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير ، فنفد صبر الشارع السوداني وأبدى شعورا واضحا بالامتعاض من موقف الحكومة السودانية وتعاطيها السلبي مع انتهاكات السلطات المصرية .
تذبذب العلاقات بين الخرطوم والقاهرة لعب فيها الإعلام المصري دورا بارزا بتطاوله المستمر على السودان ، فلم تفتر القنوات والصحف المصرية وحتى وسائط التواصل الاجتماعي من تناول السودان بشيء من الاستخفاف والسخرية اللاذعة .
قطعاً إن تبعية مثلث حلايب وشلاتين ليست القضية المحورية التي انطلق منها تصعيد الإعلام المصري ، فغالبية المصريين لديهم قناعات راسخة بسودانية حلايب وشلاتين منذ الاستعمار الثنائي البريطاني المصري على السودان والذي اعتمد المثلث دوائر انتخابية سودانية في أول انتخابات أجريت تحت مظلة الحكم الثنائي ، ولعل تعامل الحكومة السودانية ” بتساهل ” مع الاحتلال المصري لمثلث حلايب وشلاتين ، شجع النظام المصري ليعزز وجوده ويفرض سياسة الأمر الواقع.
لقد توارى الإعلام المصري وراء قضية النزاع المزعوم حول تبعية مثلث حلايب وشلاتين وصب جام اتهاماته للحكومة السودانية وفي نفسه كثير من الغضب والغيظ من تعاطي السودان مع قضية إنشاء سد النهضة الإثيوبي ، فالإعلام المصري ” يعتقد ” أن الخرطوم تخلت عن القاهرة ودعمت أديس أبابا بشأن سد النهضة الأثيوبي ، ناسي الإعلام المصري أو متناسياً أن القضية في رمتها تنطلق من منصة تبادل المنافع ، والحمد لله ذي الحكمة البالغة الذي خلق نهر النيل ليجري عكس طبيعة الأشياء من الجنوب إلى الشمال ! فماذا لو كان نهر النيل يجري من الشمال إلى الجنوب ؟ إن لله في خلقه شؤون .
المواقف المصرية المتعالية قابلتها الخرطوم ، تارة بصبر وضبط ونفس ، وتارة أخرى بصمت وسلبية غريبة ، حتى فاجأنا رئيس الجمهورية في مقابلة قناة العربية ليخرج الهواء الساخن ويكشف النقاب عن كثير من قضايا ظلت في إطار المسكوت عنها ، على شاكلة دعم وإيواء المخابرات المصرية لمعارضين سودانيين موجودين في الأراضي المصرية .
رئيس الجمهورية أعلن صراحة اعتزام السودان التقدم بشكوى رسمية إلى مجلس الأمن الدولي في حال رفض المصريين التفاوض بشأن مثلث حلايب وشلاتين ، وهي الخطوة التي كان ينبغي أن تتخذها الحكومة السودانية منذ دخول قوات مصرية منطقة حلايب وشلاتين ، فما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة ، فعودة الحقوق لأصحابها لن تنتقص شيئا من العلاقات الأزلية التي ظلت تربط السودان بمصر .
إن حديث رئيس الجمهورية ينبغي أن يكون بداية لنهاية نهج التعامل الفوقي الذي تفترضه مصر في علاقتها بالسودان، لاسيما وأن الكثير من المتغيرات على المستوى الإقليمي والدولي تهب رياحها إيجابا على الحكومة السودانية سواءً التقارب الماشي بين الخرطوم وواشنطن أو التطور المطرد في علاقة الخرطوم بالرياض ، في وقت تتراجع فيه العلاقات السعودية المصرية ، وإذا هبت رياحك فاغتنمها هكذا يقول لسان السياسة، فالسودان ظل لأكثر من عشرين عاماً يعاني من عزلة دولية ضاغطة جراء الحصار الاقتصادي الأمريكي، فأين كانت مصر؟ وما الدور الذي اضطلعت به لمساعدة ” أشقائهم في جنوب الوادي ” ؟ لم تقدم مصر شيئا سوى ” بيع ” الكلام الذي لا يسمن ولا يغني من جوع .
إن السياسة لعبة تقوم على تبادل المصالح هكذا يدار العالم، وعلى السودان بعد أن تنفس الصعداء أن يستقي الدروس والعبر من تجربة العشرين عامًا الماضية ويرتكز في علاقاته على محور المصالح بعيداً عن العواطف التي أوردتنا مورد الهلاك، وعلى الحكومة السودانية أن تتعامل مع الحكومة المصرية بمبدأ الند، فالعين بالعين والسن بالسن والبادئ أظلم. ولتبدأ الحكومة السودانية فورا في مراجعة كافة الاتفاقيات المبرمة مع الحكومة المصرية وخاصة اتفاقيات الحريات الأربع التي تتباطأ مصر مع سبق الإصرار والترصد في تنفيذها، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.
إسماعيل جبريل تيسو
الانتباهة