أفرجت وكالة المخابرات الأمريكية (سي آي إيه) عن ملايين الوثائق، بموجب مرسوم رئاسي أمريكي أصدره الرئيس الأسبق (بيل كلينتون)، لتتيح بذلك نحو 12 مليون وثيقة، كانت تعتبرها سرية على مدى سنوات، وكان للسودان نصيب مقدر من هذه الوثائق التي تكشف جانباً من صراع خفي تديره وكالات الاستخبارات المختلفة وفقاً لتقاطعات المصالح بين الدول.
قالت الوثيقة التي تمثل مذكرة صادرة عن وكالة الاستخبارات الأمريكية إلى عدة جهات خارج الوكالة من بينها مسئولين بوزارة الدفاع الأمريكي، ووزارة الخارجية الأمريكية ووزارة الخزانة، وجهات داخل الوكالة بتاريخ 31 يوليو من العام 1986، ولفتت المذكرة التي حُذفت بعض أجزائها إلى أنه منذ سقوط الرئيس السوداني السابق جعفر نميري في أبريل من العام 1985، فقد كثفت ليبيا جهودها، لزيادة الوجود الليبي في السودان، على حساب المصالح الغربية.
وتتمثل أهداف طرابلس – وفقاً للوثيقة – في وجود حكومة موالية لليبيا في الخرطوم، مشيرة إلى أن ليبيا مضت أبعد من ذلك حيث أنشأت بنية تحتية واسعة لبيوت آمنة، ومخابئ للأسلحة، وموظفين لدعم الهجمات الإرهابية ضد الولايات المتحدة ومصر وأهداف تابعة للحكومة السودانية، كذلك يمكن استغلال هذه الشبكة في تقويض الحكومة السودانية، ولكن في الوقت الحالي، ليس لدى القذافي دعماً كافياً بين أفراد الشعب السوداني، أو على مستوى الجيش، للمجيء – بشكل أحادي – بحكومة موالية لليبيا.
وحققت طرابلس بحسب الوثيقة وجوداً سياسياً لا يستهان به في الخرطوم من خلال تقديم مساعدات اقتصادية وعسكرية – جاءت في وقتها المناسب – للخرطوم، ووفقاً لرأي كاتب الوثيقة أنه طالما لا توجد بدائل للمساعدات الليبية متاحة في الوقت الحالي، فالخرطوم لديها القليل من الخيارات، لمقاومة الضغوط الخارجية لرفض الوجود الليبي في السودان، بصورة يمكن أن تعرضها لمواجهات مع طرابلس. وهذا الوضع ضروري في حال قررت الحكومة السودانية تقليل الفرص لمزيد من السياسة الليبية النشطة أو العدائية ضد الخرطوم، ويبدو أن القذافي – في الوقت الحالي- راضٍ عن حكومة الصادق المهدي، وقد يقرر أنه لا تحول دراماتيكي لسياسته، ومع ذلك، متى تصور القذافي تنامي الدور الأمريكي والمصري في السودان، خاصة في المجال العسكري، فإنه سيتحول ضد الصادق، كما أن الوثيقة لم تستبعد أن تحاول ليبيا استغلال تجديد عدم الاستقرار المحلي، أو دعم المجموعات العسكرية الموالية لليبيا.
ووفقاً للوثيقة، فإن القذافي يعتبر السودان، منطقة حيوية بالنسبة للمصالح الليبية، فهو متخوف من تطويق ليبيا بقوى معادية، لذلك فهو يسعى للقضاء على النفوذ الأمريكي والمصري في الخرطوم، ويسعى لنظام حاكم في الخرطوم متوافق مع ليبيا، لتوقيع اتفاقية وحدة مع طرابلس، ولمساعدة القذافي في مشروع النفوذ الليبي في منطقة جنوب الصحراء الكبرى، علاوة على ذلك، فالقذافي يرغب في بث نظرياته الثورية وسط الشعب السوداني.
ولفتت الوثيقة إلى أن الشعور الليبي نحو حكومة رئيس الوزراء الصادق المهدي المنتخبة الجديدة، كان “متردداً”، من جهة، فعلاقة القذافي بالصادق المهدي، وحزب الأمة ترجع إلى عقد من الزمان على أقل تقدير، عندما ساعد القذافي الصادق المهدي ضد الرئيس نميري، من جهة أخرى، فالقذافي ليست لديه علاقة بالديمقراطية والبرلمانية، وهو دوماً يفضل العمل مع نظام عسكري موالي في الخرطوم.
شراء النفوذ
وتعتبر الوثيقة أن القذافي لا يشعر بأن الحكومة الجديدة بالسودان تمثل تهديداً للمصالح الليبية، لذلك من المرجح أن يواصل في تملقه للسودان من خلال المساعدات الاقتصادية والعسكرية. وقد يصبح أكثر عدوانية في حال عارضت الخرطوم المصالح الليبية بصورة جادة، أو في حال اعتقد أنه قادر على استغلال حالة من الاضطراب الأهلي أو العسكري.
وأشارت الوثيقة إلى أن أغلب نفوذ القذافي بالخرطوم يأتي من خلال المتمردين الجنوبيين، حيث كان داعماً رئيسياً للقائد جون قرنق، إلا أنه علَّق مساعداته للمتمردين بجنوب السودان منذ مغادرة الرئيس نميري للحكم، بغرض محاولة ابتزاز الحكومة الجديدة بالخرطوم، وقد كان السودان قلقاً من مخالفة القذافي في الوقت الذي يحارب فيه جون قرنق ويحاول عزله، ومن وجهة نظر كاتب المذكرة أن الخرطوم، ستحاول المحافظة على العديد من المصالح الليبية بالسودان، طالما ظل المتمردين يمثلون تهديداً كبيراً في الوقت الحالي لاستقرار السودان.
وكان للقذافي – وفقاً للوثيقة – نفوذاً آخر يتمثل في المساعدات العسكرية للخرطوم، ففي يوليو من العام 1985، ناقش وزير الدفاع السوداني عثمان عبد الله مذكرة تفاهم تدعو ليبيا لإمداد السودان بكمية صغيرة من المعدات العسكرية، الأسلحة الخفيفة، ناقلات، قطع غيار، ومعدات أخرى، للقوات المسلحة السودانية، ودعت المذكرة أيضاً للمشاركة في الإعداد والتدريب، وفي نهاية مارس أرسلت ليبيا قاذفتين “تي يو 22” استجابة لطلب الحكومة السودانية دعماً لسلاح الجو ضد المتمردين الجنوبيين، وظلت إحدى هاتين القاذفتين متمركزة في قاعدة وادي سيدنا شمال الخرطوم. وأعلن عند ذلك رئيس الأركان السوداني أن ليبيا أوفت بجميع وعودها المتعلقة بالإمدادات العسكرية للسودان، وأن هنالك اتفاقية إمدادات عسكرية قد تتم في القريب، واعتبرت الوثيقة أن المساعدات العسكرية والجوية التي قدمتها طرابلس لا تزال تمثل أكثر المساعدات الخارجية للسودان وضوحاً.
الشبكة التخريبية الليبية
ولفتت الوثيقة إلى أن القذافي سعى لبناء شبكة تخريبية بالسودان، تحسباً للوقت الذي تسوء فيه العلاقات الليبية السودانية، معتبرة أن القذافي نجح في ذلك، وتمكن من تأمين بنية تحتية من بيوت آمنة ومخابئ للأسلحة، والدعاية المقلقة، ولكن جهوده في الوصول إلى حكومة موالية لليبيا تعتبر أقل نجاحاً.
دارفور: موطئ قدم دائم لليبيا
على الرغم من التقدم الكبير الذي أحرزه القذافي بشأن تعزيز موقعه في السودان، فقد كان التهديد الليبي الأخطر المحتمل لاستقرار السودان، يتمثل في تأسيس ما سيكون في المستقبل وجوداً ليبياً دائماً بإقليم دارفور السوداني المعزول – وفقاً للوثيقة – وأشارت الوثيقة إلى أن المسئولين الليبيين زاروا الفاشر حاضرة إقليم دارفور في مطلع يونيو من العام 1985، وبدأت الناقلات الليبية التي تحمل السلاح الوصول إلى إقليم دارفور في أغسطس، وفي مارس من العام 1986، وصل عدد الكتيبة الليبية في دارفور إلى 1.100 موظف، معظمهم من الفنيين وعمال الإغاثة، على الرغم من أن معظمهم يقال أنه تلقى تدريباً عسكرياً، إلى جانب 160 من القوات الليبية الخاصة، وفي مايو من ذات العام بدأ الوجود الليبي في الإقليم يتضاءل، وبمنتصف يوليو تبقى 100 من الليبيين، في الفاشر، على الرغم من أنه في مطلع يوليو كان هنالك لا يزال حوالي 560 من الليبيين في دارفور، أغلبهم في غرب الفاشر.
وتمركز وجود الكتيبة الليبية العسكرية في الجنينة بالقرب من الحدود التشادية، وعلى الرغم من رجوع بعض الليبيين إلى ليبيا إلا أن العديد ربما انتشروا – ببساطة – في المدن الأخرى في غرب السودان.
وأوضحت الوثيقة أن الليبيين أدركوا بوضوح الفائدة الجغرافية لوجودهم بغرب السودان، فقد كان الليبيين يشكلون تهديداً لتشاد، وكان ذلك يتطلب من الرئيس التشادي حسين حبري تعزيز جناحه الشرقي. وكان المسئولين السودانيين يعتقدون أن بعض الكتيبة الليبية في دارفور تدعم العمليات الليبية عبر الحدود في جنوب تشاد، وأن ليبيا تُجري عمليات استكشافية في تشاد عبر الفاشر، وترجِّح الوثيقة أن ليبيا كانت تحاول تجنيد اللاجئين التشاديين في دارفور، لأغراض عسكرية في تشاد.
وكانت هذه الكتيبة في دارفور – وفقاً للوثيقة – تخدم أيضاً الأهداف الليبية في السودان، وأن الليبيين قد اتخذوا خطوات لشرعية وجودهم في دارفور، وفي أبريل من نفس العام تحدثت تقارير صحفية سودانية عن مؤشرات عملية نحو وحدة عربية، ومنحت ليبيا السودانيين حق الاستقرار في المقاطعة الليبية الكفرة، التي تجاور دارفور، وتوقعت خطوة مماثلة من قبل السودان.
في ذات الوقت زار المسئولون الليبيون القيادات السياسية السودانية، مقترحين تكاملاً بين دارفور والكفرة، كخطوة أولى للوحدة بين ليبيا والسودان. وتم تجاهل القانون السوداني في دارفور – وفقاً للوثيقة – على سبيل المثال كانت الطائرات تقوم برحلات جوية من غير إذن السلطات السودانية. ولكن كان من الصعوبة على الليبيين السيطرة على نفور السكان المحليين في دارفور، والأكثر أهمية من ذلك، استمرار رفضهم لطلب السودانيين بالمغادرة.
وترى الوثيقة أن القذافي لن يتخلى طواعيةً عن الوجود الليبي في دارفور، طالما أنه لا يسيطر على الحكومة في الخرطوم، بالإضافة إلى إدراكهم قيمة دارفور بالنسبة للأهداف الليبية في تشاد، مشيرة إلى أن القذافي يرى وجودهم في دارفور “ضمان” ضد التغيير المفاجئ في الخرطوم ووجود حكومة تهدد المصالح الليبية. ورجحت الوثيقة أن القذافي يشك في دوافع الولايات المتحدة ومصر في السودان، ويتخوف من وجود سلطة موالية للقوى الغربية، وهذه المخاوف أسفرت عن تكثيف الموظفين الليبيين في دارفور، في مارس وأبريل، قبل الانتخابات السودانية.
ورجَّحت الوثيقة أن يستخدم القذافي كتيبته الموجودة في دارفور، المجاورة لكردفان التي تشكل القاعدة السياسية لحزب الأمة للضغط على الصادق المهدي لعدم الاقتراب من القوى الغربية، مشيرة إلى أن الليبيين كانوا بالفعل قد أشعلوا خلافات قبلية في غرب السودان، ورجحت الوثيقة أن يستخدم القذافي مساعداته – والتي قالت الصحافة أنها ستتوسع – لبناء النفوذ والنوايا الحسنة، مع المواطنين المحليين. واعتقدت الوثيقة أن ليبيا لن تنجح في هذا المسعى، بسبب الغطرسة التي يعتبرها المواطنون جارحةً بالنسبة لهم.
وأشارت الوثيقة إلى أن ليبيا بالغت في وضع يدها على دارفور وأن السودان بدأ يحاول إعادة السيطرة على الوضع، ورفض الصادق المهدي في الوقت الحالي طلب السلطات الليبية بشأن رحلات جوية منتظمة للفاشر، واعتقل السودانيون 94 ليبياً دخلوا دارفور دون هوية، وترى الوثيقة أنه في حال استمرار هذه السياسة فسيوقف السودان الانتهاكات الليبية الصارخة في دارفور.
وترى الوثيقة أن الاتفاقية الليبية السودانية بشأن مشاريع زراعية ستعزز الوجود الليبي الاستخباراتي في المنطقة وكذلك العمليات السرية، مؤكدة أن السودان لن يرغب في وقف هذه المشاريع الزراعية في دارفور دون التزام واضح من قبل واشنطن لتحل محل المساعدات الليبية.
قراءة للمستقبل
ترى الوثيقة أن ليبيا تمثل تهديداً للمصالح الأمريكية بالسودان، فعلى الرغم من تحمّل القذافي لحكومة الصادق المهدي الحالية، فإنه لا يحب الديمقراطية، ويتوقع أن يعمل على إزالتها نهائياً لصالح حكومة عسكرية متطرفة، بالإضافة إلى أن الوجود الليبي في السودان يسبب احتكاكات بين التحالف السوداني الحاكم؛ فكل من القوات المسلحة والاتحادي الديمقراطي كانوا مستائين من تعامل الصادق المتحفظ مع ليبيا. وحتى هذا الوقت من غير المرجح أن تتمكن ليبيا من إنشاء نظام حاكم موالي لطرابلس بالخرطوم، كذلك قد لا تكون هنالك مشاركة أمريكية في السودان، وفيما يتعلق بمصر فإنها قد ترى تهديداً لها خاصة إذا كان هنالك تهديد لمجرى النيل، ومن المرجح أن تلجأ لواشنطن لمساعدتها في حال أنها قررت التصدي للعملاء الليبيين في الخرطوم.
كذلك الجهود المستمرة من قبل ليبيا لإضعاف النفوذ الأمريكي في السودان، سيشكل تهديداً أكثر إلحاحاً للمصالح الأمريكية، وترى الوثيقة أن المساعدات الليبية الاقتصادية والعسكرية قد تعزز استعداد الحكومة الجديدة لتكون أقل استجابة للأهداف الأمريكية، مثل دعم اتفاقية كامب ديفيد، والتعاون العسكري، مشيرةً إلى أن النشاطات الإرهابية الليبية قللت الموظفين الأمريكيين في السودان، الأمر الذي سيجعل السودانيين معرضين للضغط الليبي.
ولفتت الوثيقة إلى أن جهود طرابلس للعب دور مهم في السودان خدمت أهداف القذافي في تسليط الضوء عليه كزعيم عربي إفريقي، كما ساعدت على تعزيز هيبته ونفوذه في دول إفريقية أخرى، وعقدت جهود الولايات المتحدة لعزل ليبيا.
ترجمة: سحر أحمد
السوداني