لم يكن الصحافي التشيكي بيتر جاسيك، يدري أنه قد فوّت فرصة لن تتكرر قدامه ثانية، بإصراره على عدم مغادرة السودان دون حقيبته التي أمرته السلطات السودانية بتركها في حال اراد اللحاق بطائرة الركاب التي كانت على وشك ان تقله خارج البلاد. فانتهى به إصراره وحاله كما أراد بمعية حقيبته، ولكن مع أمل ضئيل بمغادرة الحدود حيث اعتبرته الحكومة بداية من يوم (الأحد) نزيلاً دائماً على سجونها.
وقاد إصرار جاسيك على الرحيل بالحقيبة، إلى إحالته إلى مكاتب جهاز الأمن، وهناك اتضح أن محتويات الحقيبة، تساوي حياته بالفعل، وعلّ ذلك ظهر لاحقاً في حكم الحكمة التي قضت يوم (الأحد) الماضي، عقوبة السجن مدى الحياة على جاسيك، بتهم تتصل بالتجسس وإثارة الحرب ضد الدولة وإثارة الكراهية ضد الطوائف الدينية في البلاد.
يذكر أن جاسيك أنكر أمام النيابة أن تكون الحقيبة تخصه، وقال إنها أمانة استبقاها معه زميل له يدعى غراد فيلبس العام 2012م بولاية جنوب كردفان.
صحيفة الاتهام
قال الاتهام في قضية جاسيك، إنه قد دخل البلاد بطريقة غير مشروعة قادماً من دولة جنوب السودان، ونفذ إلى منطقة جبال النوبة التي تشهد معارك بين القوات المسلحة السودانية والحركات المسلحة. وطبقاً لما جرى تحريزه في جهاز حاسوبه وهاتفه النقال، إثر عودته إلى البلاد عبر بوابة مطار الخرطوم العام الماضي، عثرت السلطات على صور وفيديوهات توثيقية ضمن محال متأثرة بالنزاع هناك، علاوة على صور له مع أفراد يتبعون لمنظمة (بي بي اف) الأجنبية وأمامهم خارطة لمنطقة الجبال.
ومن التهم التي سيقت إلى جاستين برفقة اثنين من القساوسة، محاولتهم لتلفيق تهم ضد الحكومة السودانية، بالتفرقة الدينية، مدللين بمؤتمر صحافي جرى تنظيمه في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا، وتصوير شاب تعرض لحروق في ضاحية بالخرطوم، على أنه مرتد عن الدين الإسلامي وتمت معاقبته بواسطة الحكومة السودانية، وقال المتحري في أكثر من جلسة إن جاسيك حضر لإجراء مقابلات مع أهالي سودانيين للادعاء بتعرضهم للتعذيب بواسطة السلطات في البلاد.
وفي أول ردة فعل لمحامي الدفاع عن جاسيك ورفاقه، قال ريماس مرجان إنهم في طريقهم لاستئناف الحكم لدى المحكمة العليا خلال 15 يوماً من تاريخ النطق بالحكم، وذلك بناء على القوانين السودانية، وتوقع أن يتم إلغاء الحكم من قبل قضاة العليا.
مآلات خطيرة
انشغل الرأيان العام السوداني والعالمي بقضية بيتر جاسيك باعتبارها أول قضية لمنتمٍ إلى دول الاتحاد الأوروبي ينتهي به الحال محكوماً بالسجن المؤبد على التراب السوداني (24 سنة سجن).
وسبق أن أوقعت السلطات السودانية، في العام 1971م حكماً بالإعدام ضد المرتزق الألماني رولف اشتاينر، بتهمة المشاركة في الحرب الأهلية في جنوب السودان.
وتسلمت الخرطوم، المرتزق الأبيض، من جارتها –وقتذاك- كمبالا، وصادقت على حكم بإعدامه إبّان عهد الرئيس الراحل جعفر نميري، ثم جرى تخفيف الحكم بالسجن مدة (20) عاماً، ولكن بعد سنوات ثلاث، أفرج عنه لأسباب طبية.
ويرى الخبير الاستراتيجي، اللواء د. محمد العباس الأمين، أن الحكم القاسي، الصادر في تهم التجسّس، إنما هو آلية ردع ضد من تسوِّل لهم أنفسهم إفشاء أسرار الدول أو تلفيق تهم كاذبة بهدف الإضرار بسمعتها وأمنها. منوهاً إلى أنه في حال خروج جاسيك بمحتويات حقيبته لطالت الخرطوم تهم فادحات وذلك عبر استخدام الصورة من منظور معادي دون استبعاد لحصول عمليات (فبركة).
وتوقع العباس في حديثه مع (الصيحة) أن يزج الساسة الغربيون بأنوفهم الطويلة في محاولة لتخفيق وإلغاء الحكم الصادر ضد الصحافي التشيكي.
وبالفعل، بعد هنيهات من حديث الأمين، أورد موقع (سودان تربيون) الإخباري، عن بيان صادر من وزارة الخارجية التشيكية، اعتزام نائب وزير الخارجية التشيكي زيارة الخرطوم قريباً لقيادة مفاوضات بهدف إطلاق جاسيك. وقالت براغ طبقاً للموقع إن الحكم الصادر ضد مواطنها لا أساس له من الصحة، وإن الأدلة المساقة ضده لا تدعم إدانته ولا تضاهي الحكم الصادر ضده.
حديث القانون
لمعرفة الرأي القانوني في قضية جاسيك، اتصلت (الصيحة) بالخبير القانوني المعروف، الأستاذ نبيل أديب.
يقول أديب المحامي، إن الفرص القانونية أمام جاسيك، تتمثل في محكمة الاستئناف، ومن ثم المحكمة العليا للنظر في قرار محكمة الخرطوم شمال، وفي الحد الأدنى تخفيف الحكم الصادر بحقه.
وأيضاً في السياق القانوني، ينبه أديب إلى أن الصحافي التشيكي، سيقضي المدة المقررة عليه في حال ثبوت الحكم في السجون السودانية، بحسبان عدم وجود اتفاقات مبرمة بين الخرطوم وبراغ لتبادل المحكومين.
وعن نظرته لما يمكن أن تؤول إليه الأمور، قال أديب إنه يتوقع أن تجري وساطات دولية وسياسية لإطلاق سراح الصحافي التشيكي، ونبه إلى أحقية الدولة التدخل لدى أي درجة قضائية لإسقاط الحكم الصادر من محكمة الموضوع أو المحاكم الأخرى.
خيار خاطئ
إذا عادت الأيام بجاسيك إلى شهر أغسطس من العام 2015م، لن يتورع في ركوب الطائرة التي كان محركها دائراً في مطار الخرطوم، وذلك بحسبان أن مغادرته من دون حقيبته، خير من بقائهما سويةً في السجن.
الصيحة