حقاً وكما يقولون فإنّ (الحاجة أم الاختراع).. أما الحاجة فهي إعالة الأطفال ليعيشوا وينالوا تعليمهم بأمانة وشرف.. وأما الاختراع فهو أحجار جبال كسلا الصلدة، فهذا المثل العظيم يؤكد صحته حال بعض النسوة بكسلا من ذوات الإرادة الصلبة كصلابة الأحجار التي تتعامل معها أياديهن الشريفة ويقضين نهاراتهن في تكسيرها وتشذيبها.. هذه الأيادي التي كان يفترض أن تتخضب بالحناء لولا الحروب وعدم الاستقرار وقصر النظر وتقاصر الخيال الذي اُبتلي به هذا الوطن حيناً من الدهر فهن نساء سُودانيات يحلمن كغيرهن من النساء بالحياة الهنيّة والعيشة الرغدة.. ولكن عوضاً عن ذلك فقد حباهن الله بالعزيمة التي لا تلين والهامات التي لا تنحني.. باحثات عن اللقمة الحلال التي تقيهن وأُسرهن، أو حتى الوقوف بالساعات الطوال في صفوف ديوان الزكاة أو مؤسسة التمويل الأصغر، فقرّرن أن يصرفن على أنفسهن وأُسرهن من كسب أياديهن كما كان يفعل نبي الله داؤد عليه السلام..
ومن ثَمّ يقمن بتمويل عملهن الشاق تمويلاً – كبيراً – من دون الحاجة لإضاعة أوقاتهن في الصفوف الطويلة من أجل الحُصُول على تمويل أصغر متمثلاً في – قطعة – ذرة قد تأتي أو لا تأتي أو إهدارها في البحث عن شيكات ضمان يُعتبر الحُصُول عليها أسهل منه الإتيان بلبن الطير فمن أين لأرملة توفر بالكاد قُوت يوم أطفالها بضامن مالي؟ بل من أين لها بشَيكٍ مُعتمدٍ؟ أو حتى غير معتمد؟ فهؤلاء النسوة ومثلهن الآلاف من الأُسر المُتعفِّفة التي قد لا يتسنى لها رفع مَظلمتها وفقرها للمَحليّات ناهيك عن رفعها للحكومة الولائية بكسلا، بالرغم من أن عدد محليات الولاية بلغ إحدى عشرة محلية وذلك كما قيل لتقصير الظل الإدراي، ولكن التجرية بما فيها من بيروقراطية تثبت كل يوم أنّ الظل الإداري يتمدّد ولا يقصر…
عند سفح جبل الختمية على طريق حي الإنقاذ الشرقي، وأيضاً عند سفح جبل طارق شرقي كسلا الذي يكاد يتلاشى من كثرة تكسير أحجاره شأنه في ذلك شأن جاره الأكبر جبل مكرام.ـ وجدنا عددا من النساء يعملن في تكسير الأحجار مستخدمين في ذلك بعض الأدوات البدائية كالشاكوش والعجنة وغيرها ومن ثم تعبئة الأحجار الصغيرة في جوالات الأسمنت الفارغة وعرضها أمام محلاتهن التي شيدت من الخيش فهي لا تكاد تحجب عنهن أشعة الشمس..
في البدء سألنا السيدة سامية آدم تسكن حي كادُقلي عن استخدامات الخرسانة في كسلا، فقالت إنها تستخدم في البناء وأعمال صَبّ المولدات الكهربائية والسبت تانك وغيرها من الاستخدامات، حيث تباع الصفيحة من الخرسانة بستة جنيهات، وتضيف بأنهن في الصيف تبيع الواحدة منهن أكثر من عشرين صفيحة في اليوم، أما الحاجة حليمة كرشوم وهي امرأة ستينية تسكن حي كادُقلي شرق كسلا تقول: إنها ظلت تعمل في هذه المهنة – تكسير الخرسانة – منذ أكثر من عشرة أعوام، وتضيف بأنها بحمد الله أحوالها مستورة فهي تكسب في الأيام العادية حوالي عشرة جنيهات في اليوم، بينما يرتفع الكسب في أيام المواسم في أشهر الصيف عندما يتجه معظم الناس للصيانة وتشييد المنازل، ولكن هذه الأيام كما تقول حليمة السوق نائم حتى نكاد لا نبيع شيئاً ليومين أو ثلاثة، وقلت إنها تعرف مهنة أخرى لتحولت إليها في هذه الأيام.. وإجابة على سؤالنا لها هل تم تمليكها كشكاً أو محلاً من قبل المحلية أو جهة حكومية أخرى لتُمارس فيه مهنتها بأمان، أجابت أنّها لم ترَ حكومة قط وبالطبع لم تملك كشكاً وتعمل ومَعها زميلاتها في وأمام قطعة سكنية تابعة لأحد المواطنين الذي تبرّع بها لهن، ولكن إلى حين بنائها وبالتالي وعندما يفكر في تشييدها وهو أمرٌ متوقعٌ في أي لحظة كما قالت، فإنهن سيتم تشريدهن أو يذهبن خارج المدينة في أماكن ربما لا يستطيع المشترون الذهاب إليها.
وتلتقط الحديث السيدة فاطمة موسى تسكن حي امتداد المربعات وهي تعمل في الخرسانة منذ العام 2005م، بأنهن يأتين بالمواد الخام وهي عبارة عن أحجار كبيرة نسبياً من جبل طارق ويشترين حمولة “البوكس” بمائة وستين جنيهاا وهو يكفي لإعداد حوالي أربعين صفيحة، وتضيف الحاجة فاطمة أنهن يقمن بجمع المادة الخام من جبل طارق بأنفسهن ويدفعن فقط أجرة “البوكس” حتى يتسنى لهن تحقيق فائدة أكبر، وفي إجابة لسؤال عن هل هذه المهنة مُجزية بالنسبة لهن؟ أجابت فاطمة بنعم، خاصة في فصل الصيف ولكنها مهنة مُتعبة كما قالت وتتطلب صبراً كبيراً ولا يقدر عليها إلا الصابرون والصابرات خاصةً في الصيف، حيث ترتفع درجات الحرارة ويتزامن ذلك مع ارتفاع سخونة الأحجار التي تكون ملتهبة كما قالت، وكذلك ارتفاع حرارة سفح الجبل والسموم القادم جهة الشمال كما قالت..
ورغم ذلك يحمدن الله على نعمة الصحة والعافية.. فقط يطلبن من الحكومة وخاصة في عهد الوالي الإنسان آدم جماع آدم تمليكهن أكشاكاً يستظلن تحتها في أيِّ مكان بكسلا شرق وتنظيم وتطوير مهنتهن وتوفير المعينات لهن.. ولكن فاطمة عبرت عن ريبتها وخوفها من أن تتسبب عملية ظهورهن في الصحف – نتيجة لهذا التقرير – في فرض رسوم عليهن من سلطات المحلية، مضيفةً ضاحكةً: (يازول إنت داير تجيب لينا هواء بارد)؟!
هذه واحدة من المهن الشريفة التي اخترعتها حواء السودان لتعتاش منها وتعيل منها أفراد أسرتها كي يعيشوا حياةً أكثر سهولة وأنعم حالاً من حياتها.
صحيفة التيار