شهد عام 2012 تسارعاً غير مسبوق في هجرة الكفاءات السودانية ما عظم قدره وما صغر، إلى مهاجر عديدة على البسيطة الممتدة من بلدان شرق آسيا عبوراً بدول الخليج وحتى مرسى الجودي على ضفتي الاطلسي وقد جاوز المتسارعون المحيط الاطلسي إلى القارة الثانية في الطرف القصي من الكرة الارضية.
أحدثت هذه المسارعة ارتجاجاً في اوساط متخذي القرار بحسبان ان هذا النوع من الهجرة مفقر للبلاد من أهم مورد بشري يغذي التنمية التي نطمح في إرساء قواعدها وبسط أشرعتها.
السؤال الاستهلالي، هل تهاجر العقول؟ في اطار الاهتمام المتعاظم بموضوع هجرة الكفاءات هل نتحدث عن الكفاءات العلمية المكتسبة أم هجرة الادمغة، أم استنزاف القدرات، أم ماذا؟ إنني ارتاب في مصطلح هجرة العقول أو الادمغة فكل المهاجرين قد هداهم الله النجدين واضفى عليهم نعمة العقل على تفاوت وتفاضل، فلذلك نرى ان المصطلح غير دقيق ويسمو عليه مصطلح نزيف الكفاءات وخاصة الكفاءات العليا التي تؤثر تأثيراً ملحوظاً على مسار التنمية في البلاد. هذا ليس انتقاصاً من الكفاءات المتوسطة والصغرى فقد شهد السودان هجرات متتالية منذ سبعينات القرن الماضي واريق حبر كثير حولها، ولكن قلوبنا لم تكن واجفة وابصارنا لم تكن شاخصة، منها كماهو عليه الحال في يومنا هذا وسوف نستجلي ذلك بعد حين. الموضوع لم يقتل بحثاً كما درجنا ان نقول حين نكرر البحث في أمر كثر فيه الحديث ولكن لا زلنا نبحث ولما نصل إلى قول فصل وسدرة المنتهى.
النزيف نوعان:
مثلما يخبرنا الطب ان هناك نوعين من النزيف في جسم الإنسان، داخلي وخارجي والأول يقصد به ميل العلماء وذوي الكفاءات المتميزة إلى المعيشة على هامش الحياة في وطنهم وتوجيه اهتمامهم كله نحو العلم في حد ذاته أو لقيمته الذاتية من أجل المعرفة وليس بالضرورة الإسهام الفاعل في تنمية المجتمع وقد يحصد هؤلاء جوائز تقديرية ذات اعتبار ولكنهم منكفئون على ذواتهم دون إنتشار معرفي.
أما النوع الأخر وهو محط الاهتمام وهو تزايد اعداد المهاجرين ذوي القدرات العالية إلى خارج الوطن مما يسبب حرمان الدولة من تخصصاتهم في مجالات الحياة كافة ويؤثر ذلك على التركيب الهيكلي للسكان والقوى البشرية. وقد نعزو ذلك إلى عدة مسوغات.
الخلل البيئي المعيشي والعسر الذي يصاحب ضآلة المكتسب المادي من العمل التخصصي ولا نقول ضنك العيش ولكن غلبة الطموحات الحياتية على الكسب الموازي لها.
فقر الامكانيات والقدرات على تقديم خدمات مرضية مثل الصحة والتعليم وصحة البيئة وما إلى ذلك مما ينغص الحياة النوعية التي يرنو إليها المتعملون المتميزون.
ولا يغرب عن أذهاننا النمط التجزئي والتقسيم الدولي للعمل والنظام الاقتصادي العالمي غير المتكافيء فتراكم التقانة في جزء من العالم وصيرورة الجزء الأخر حقلاً استهلاكياً نهماً يعمل على تدفق الكفاءات سراعاً نحو موطن التراكم ويثري تلك الدول- فتزداد ثراء من عوامل انتاج دون أن تتحمل اية تكلفة إن في هذا خسراناً تنموياً مبينا للدول الفقيرة وكسباً عظيماً للدول المضيفة، حاضنة الكفاءات ومستثمرة القدرات، كم من السودانيين حصل على براءة الاختراع في بعض العلوم وهو في الخارج مقابل نظيره القابع داخل المعامل المهترئة؟؟
ضآلة فرص البحث العلمي وأجهزة المعامل والتحفيز المالي للنجاح العلمي اضافة للبيئة الاجتماعية التي تقعد العلماء عن توظيف قدراتهم محلياً مثل تعقيدات النسيج الاجتماعي السوداني يقترن هذا بجاذبية الوسط العلمي الذي يبقى الكثيرين في المهجر بعد إكمال دراساتهم.
المتغيرات الاقتصادية وما ينجم عنها من معدلات تضخمية على منوال هندسي مما يجعل ارتفاع اسعار السلع والخدمات مضطرداً دون كوابح مرئية، فأصبح الهروب من هذا الوضع ضربة لازب لمن تتاح له الفرصة دون ارتياب، خاصة في ضوء ثبات نسبي في أجور معظم المتخصصين في المجالات الحيوية، واذا تعدلت الأجور طفيفاً فإن السوق يظل فاغراً فاه ليبتلعها قبل ان تصل إلى نوافذ الصرف.
الخطر الماحق للأجيال القادمة:
تشير الاحصاءات والمعلومات التي تختزنها المؤسسات الدولية (منظمة العمل الدولية والمنظمة الدولية للهجرة ووكالات اللاجئين) إلى أن خطراً ماثلاً لهجرة الكفاءات قد تبدي الآن أمام ناظرينا، فقد ساد الظن بأن المهاجرين هم من ذوي العسرة وانطلى هذا الظن على الكثيرين حتى اصبح يقيناً. بيد أن الأمر ليس كذلك، على تأثير بالغ على الأجيال جزئياً، إن الخطورة تكمن في أن هجرة الكفاءات ذات تأثير بالغ على الاجيال القادمة، الاصغر عمراً وأقوى عزماً، من كفاءات الدول النامية خاصة من ينتمي منهم إلى الفئات الاجتماعية الاقدر حيث يتاح لهم أن يكونوا أكثر استعداداً من خلال وسائل الاتصال والتعليم ومواجهة مقتضيات المكث في دول المهجر، الأمر الذي سيلحق مزيداً من الضرر بالدول المصدرة لهذه الكفاءات بدءاً من الفاقد في الاستثمار وفي التعليم وإنتهاء بإضعاف القدرة الذاتية للمجتمع على إدارة شؤونه.
ولم نعد نتجادل في أمر الزيادة أو النقصان في اعداد المهاجرين ذوي الكفاءات العالية. فهذا اصبح من اوابد الجدل الذي لا يفضي إلى شيء. ولا خير في كثير من النجوى حوله، ونحن مع القائلين إن التحولات المجتمعية قد تؤدي إلى حالة من عدم التوازن الاقتصادي والاجتماعي، وبالتالي صعود شرائح اجتماعية جديدة وتدني أو هبوط شرائح أخرى. ومن ثم عدم تحقيق العدالة الاجتماعية بالصورة المرتجاة، ولذلك تبحث الكفاءات العلمية عن دور فردي لها فتتجه نحو العالم الخارجي وهو المتقدم بطبيعة الحال.
دراما الفاقد الاستثماري إن التعليم أصبح عملية إستثمارية لأن ناتجه موارد بشرية فاعلة في حلبة التنمية. قسط من هذه الموارد بعد تأهيلها يذهب إلى الحاضنات الاستثمارية خارج بلاد المنشأ دون تحميل الدول الحاضنة اية مدخلات انتاج، كم يا ترى التكلفة الحقيقية التي تتكبدها الدولة الطاردة بعد تدريب وتأهيل كوادرها المتميزة. ان هجرة الكفاءات تجفيف لمعين التطور في شتى مناحي الحياة، وقد اوردت منظمة العمل الدولية أن هجرة الكفاءات تكلف الوطن العربي ثلاثة عشر ملياراً سنوياً.
ملخص عن آفاق الهجرة
بقلم الخبير البروفيسور/ الهادي عبد الصمد
صحيفة الصحافة