دهشت لموقف السيد الصادق المهدي المتحفظ بل الرافض لرفع العقوبات المفروضة على السودان ودهشت أكثر للمبررات التي ساقها لاتخاذ ذلك الموقف الغريب الذي لا يشبه مواقفه الوطنية على امتداد مسيرته السياسية.
فقد قال المهدي إن الأسس السياسية التي بنيت عليها القرارات الأمريكية (غير حقيقية) مردفاً (الصحيح أن تقاس جدوى أية إجراءات تعم السلام والتحول الديمقراطي في السودان على أساس أربعة مقاييس) ثم طفق الرجل يعدد تلك المقاييس.
أعجب أن يُخضع المهدي القرار الأمريكي لمقاييسه هو وكأنه يجزم بتطابق مقاييسه ومعاييره مع أحكام ومعايير الإدارة الأمريكية أو كأن أمريكا إحدى ولايات السودان أو كأن الرجل يشغل منصباً مرموقاً في مؤسسات صناعة القرار في أمريكا.
ثم قال المهدي ناصحاً الرئيس الأمريكي أوباما الذي أصدر قرار رفع العقوبات بأن عليه ، لتعزيز صورته كصانع للسلام (أن يعمل على دعم الشعب السوداني في مهمة السلام العادل الشامل والتحول الديمقراطي الكامل) بما يعني أن تظل العقوبات جاثمة على كاهل الشعب السوداني (الغلبان) إلى أن يستجيب النظام الحاكم لمطلوبات السلام العادل والتحول الديمقراطي وفقاً لتصور المهدي.
من قال لك أخي الإمام إن (دعم الشعب السوداني) يتحقق بالتضييق على حياته ومعاشه، وأين هو ذلك التحول الديمقراطي الذي تنادي به في مصر (السيسي) التي اتخذتها موطناً بديلاً والتي يحكمها انقلاب عسكري دموي يقبع في سجونه عشرات الآلاف من المعارضين السياسيين وقتل برصاص قواته المسلحة الآلاف في ليلة واحدة، وهل طبقت أمريكا التي تخاطبها الآن معايير التحول الديمقراطي في مصر أم باركت انقلابها العسكري بل وساندته كما ساندت وتحالفت مع كثير من الدول (غير الديمقراطية) في منطقتنا العربية والعالم ؟ .
أجبني أخي الإمام : هل تعاملت أمريكا مع تلك الدول بناء على (أسس سياسية حقيقية) كما تقول أم أن السودان وشعبه الصابر المحتسب هو (حيطتك القصيرة) التي تصر على أن تطبق أمريكا عليها ، دون غيرها من دول العالم ، الخناق وتذيقها من بأسها وظلمها إلى يوم القيامة وكأن العشرين عاماً الماضية من القهر والظلم ليست كافية ؟.
ثمة سؤال آخر .. ماذا أجدت العقوبات الأمريكية منذ إعمالها على السودان قبل عشرين سنة أو فعلت لتحقيق التحول الديمقراطي الذي تطلبه ومن هو المتضرر منها؟ أهو النظام الحاكم الذي تناصبه العداء أم الشعب الذي ظل يعاني في معاشه وصحته وتعليمه وكل تفاصيل حياته؟.
ثم بلغ التعجب مني مبلغه حين قال المهدي إنهم بصدد مخاطبة الرئيس أوباما والرئيس الجديد ترمب (بهذه المعاني متمنياً التجاوب معهم لتأييد موقف القوى الوطنية السودانية).
ليت المهدي أجرى استطلاعاً للرأي في أوساط السودانيين قبل أن يصدر بيانه هذا الغريب ليعلم الحقيقة بدلاً من تلقيها من وحي الخيال والأماني وهو بعيد يعيش في منفاه الاختياري، أما أن يتحدث بالنيابة عن الشعب السوداني متوهماً أنه يعبّر عنه ويخاطب الإدارة الأمريكية بأجندته السياسية زاعماً أنها تعبّر عن إرادة الشعب فهذا ما لا يصح ولا ينبغي له ولا يجوز، وأربأ بالرجل أن يخلط بين مصلحته الحزبية والمصالح الوطنية العليا أو أن يقدم الخاص على العام، فالوطن أولى من الحزب، والشعب أولى من حظوظ النفس الأمارة، فهلا انتصح بنصيحته التي لطالما خاطب بها صهره وخصمه السياسي دكتور الترابي (رحمه الله) أيام كانت مواقف الرجلين من الحكومة الحالية عكس ما هي عليه اليوم حين كان يقول : (من فش غبينتو خرب مدينتو)؟.
يعلم السيد الصادق المهدي أننا لم تأخذنا في الحق لومة لائم حين ناصرناه وغاضبنا الحكومة الحالية يوم توقيعه إعلان باريس ودفعنا فاتورة ذلك الموقف تضييقا علينا في صحيفة (الصيحة) وفي غيرها. أقول ذلك حتى يعلم أننا لا نصدر عن موقف منحاز لأي طرف إنما هو موقف وطني استقيناه واستخلصناه من نبض الشارع السوداني العريض الذي نعلم ما أحدثته تلك العقوبات الظالمة من تأثير على حياته ومعاشه وعلى مسيرة وطنه الذي عانى من تضييق قاس وصارم على تقدمه وتطوره ونهضته.
ليت الإمام يعود إلى وطنه فوالله الذي لا إله غيره أن السودان أرحم به من أوطان أخرى تستخدمه ولا ترحمه، سيما وأن أمريكا لن تقيم له التحول الديمقراطي الذي ينشده ولو كانت تفعل لما ناصرت الإنقلابيين في مصر مضحية بالديمقراطية التي لم تلب أجندتها ومطلوباتها السياسية، فهلا عاد إلى محبيه ومناصريه لنصنع معاً للسودان ذلك التحول الديمقراطي الذي ظللنا ندندن حوله، وهلا خرج من تحالفه (البغيض) مع عرمان والحلو وعقار الذين لا يشبهونه سواء من حيث المرجعيات الفكرية والثقافية أو الأهداف السياسية، فهؤلاء ليسوا جديرين بأن يستقوي بهم لتحقيق التحول الديمقراطي الذي يريد ذلك إن فاقد الشيء لا يعطيه سيما بعد أن تبين له أنهم يسعون لاستخدامه تكتيكياً ثم يركلونه كما فعلوا وزعيمهم قرنق للتجمع الوطني الديمقراطي عشية إبرام اتفاقية نيفاشا المشؤومة.
الطيب مصطفى
صحيفة الصيحة