> لا نعرف سبباً للتكتم على مجريات التشاور والتحاور حول تأليف الحكومة المقبلة المتمخضة عن الحوار الوطني ..؟ فرغم تسارع الخطى حثيثاً نحو التشكيل الحكومي المرتقب المنتظر، ويقال أنه لم يتبق إلا أيام على إعلانه، إلا أنه لم يتسرب شيء مفيد ومشبع يروي غلة الصادي، حول الكيفية التي ستتكون بها الحكومة والمشاورات الجارية حولها ومعايير تكوينها، ولم نلحظ أو نحس بلقاءات سياسية مطردة ومكثفة واجتماعات محمومة وحامية الوطيس بين شركاء الحوار لتقديم المرشحين لاختيار شاغلي الوظائف الدستورية والمواقع المختلفة وقد حان قطافها ..؟ ويبدو أن الرأي العام يظهر زهداً لا تخطئه عين في الاهتمام بتفاصيل ما يجري حول الحكومة المقبلة، رغم أنها ستكون الأولى من نوعها في البلاد التي ستجد حولها إجماعاً من القوى السياسية والحركات المسلحة والأحزاب التي اختارت الحوار طريقاً للتوافق.
> لم يحدث في تاريخ السودان الحديث أن توفرت فرصة ملائمة لاصطفاف مثل هذا الكم من التشكيلات السياسية والأطياف الحزبية وهي تلتقي حول قواسم مشتركة ونقاط التقاء تمثل جماع الرأي الوطني في القضايا الملحة المطروحة على الساحة السياسية ومعضلات الحياة العامة، فليس هناك خلاف في مخرجات الحوار الوطني والتوصيات بين الحكومة والمعارضة السياسية وحتى المسلحة، دعك ممن شارك في الحوار وساهم في صياغة توصياته ومخرجاته، فلماذا تتم المشاورات في الخفاء وراء الكواليس وبين الحيطان؟ فهل لأن هناك نذر خلافات بين الأحزاب الشريكة في الحوار حول مشاركتها بسبب كثرتها ومن تختار ليمثلها؟ وتكاثرت ظباؤها على خراش المؤتمر الوطني كما يقول بيت الشعر العربي القديم:
تكاثرت الظباءُ علي خراشٍ
فلا يدري خراشٌ ما يصيدُ!!
> فالأحزاب الثمانون ونيف التي تمثل سداة ولحم الحوار، لا يمكن أن تشارك جميعها في الحكومة الاتحادية والمواقع التي تتوزع على الجهازين التنفيذي والتشريعي الاتحادي والولائي، وستنثر وتوزع أنصبة الحكم والمشاركة على نحو دقيق يفوق تقسيم (المرارة) بأيدي نساء ماهرات، وهذه العملية التقسيمية ستنال بجدارة لقب أكبر محاصصة سياسية في تاريخ البلاد، فالكل يريد أن يرى نفسه في مرآة السلطة المقبلة وهي تجرجر أذيالها.
> المؤتمر الوطني في موقف لا يحسده عليه معارضوه، فهو يضع خريطة المشاركة أمامه بكل تفاصيلها وسوانحها وفرصها ومواقعها وتضاريسها وخياراتها الصعبة وتقديراتها الدقيقة في المركز والولايات، ويرى ما يقابلها من خليط ومزيج ما أنزل الله به من سلطان، يتكون من الاتجاهات الفكرية والفسيفساء الحزبية والأحياء السياسية الدقيقة التي لا ترى بالعين المجردة، وجيوشاً من المستوزرين والطامعين والراغبين والمتعطشين والطامحين، فكيف يمكن المزاوجة بين كل هؤلاء وإرضاء الذات السياسية النزقة عند كثير منهم والنفوس الأمارة بالسلطة ..؟
> لو درى المؤتمر الوطني ما عليه من مسؤولية وحرج، لجعل التشاور في الهواء الطلق وتحت الشمس في رابعة النهار، فاللعبة يجب أن تكون مكشوفة، فهي تحت المسمع والمرأى ستكون الميزان الوحيد ليعرف كل حزب حجمه، وكل حركة مسلحة وزنها، وكل راغب مقدار ما عنده من ثقل، ولأنه لا يمكن اختبار الأوزان والأحجام والأثقال إلا بالانتخابات الحرة المباشرة النزيهة الشفافة والجلوس على كفة ميزان الجماهير، دعونا عوضاً عنها نرى هؤلاء القادمين جهرة عياناً وبياناً أمام أعيننا .. لنراهم كيف يتحدثون وكيف يفكرون… وما الذي يريدون أن يفعلوه .. وما هي قدراتهم.. وأفكارهم ومساهماتهم الوطنية وكفاءاتهم؟
> دعونا نراهم ولتكن هي البداية الحقيقية لوأد الموازنات الجهوية والقبلية ومعيار المناطق والعشائر، فبالسياسة وأبوابها المفتوحة ونقاشاتها المعلنة ونتاجات اجتماعاتها وتفاعلاتها، تنهض معايير جديدة وجيدة تجعل الرأي العام يتفحص من يريد أن يحكمه، لقد جاءت الفرصة لتغيير أنابيب الاختبار وقوارير معمل كيمياء السياسة، شيئاً أقرب إلى ملامح جمهورية ثانية أو ثالثة، فالحدث القادم كبير ومفصلي بحجم مشروع الحوار الوطني، وهو محمول سياسي ضخم له أثمانه وتكاليفه وتنازلاته وتغييراته وملامحه التي لا تشبه أية مرحلة من مراحل تاريخ السودان في حقبه الوطنية القريبة.
الصادق الرزيقي – أما قبل
صحيفة الإنتباهة