عزالدين شارف على العاشرة من عمره وأخوه ذو الثمانية أعوام هجرا مقاعد الدراسة جراء العوز والحاجة، يعبران الفيافي ذهاباً وإياباً من حي مايو، حيث يقطنان إلى أحد المعسكرات بجبل أولياء فقط ليتناولان وجبة يسدان بها رمقهما، بجانب تلقيهما لبعض الدروس من حين لآخر مع أقرانهما النازحين.
جلست جوارهما في المقعد الخلفي للمركبة العامة بعد انتقالي من المقعد المتحرك، ما لفتني نحوهما اتساخ جسديهما وملابسهما وكأنهما افترشا الأرض ليلاً حتى تنفس الصبح، بجانب أنها ممزقة وشفافة رغم برودة الطقس في بداية اليوم كالمعتاد إضافة إلى فصل الشتاء، تحدثت إليهما حديثاً يشبه الهمس وسألتهما من أين أتيا وإلى أين ذاهبين؟ أجاباني ببراءة مطلقة “جايين من معسكر طيبة بجبل أولياء وراجعين بيتنا في مايو”، هنا تتارت الأسئلة والاحتمالات في خلدي: لماذا وكيف ولم وأين؟ وربما! واحتمال!
مصير مجهول
عز الدين لم يبلغ العاشرة من عمره يرافقه أخوه ذو الثمانية أعوام، أجبرهما الفقر على مغادرة مقاعد الدراسة حال تركهما منطقة الجزيرة ومجيئهما إلى عاصمة الجوع والغلاء، حد تعبيرهما، تبلغ قلوبهما الحناجر خوفاً من مصير مجهول، كما طمست همومهما ملامح براءتهما، رأيت عالما آخر في مرآة أعينهما وقتما تجاذبت معهما عمق الحديث، وقال لي الصغير: “نجد الوجبات مجاناً في المعسكر نحن ومن معنا غير النازحين، ويهتمون بنا”.. حينها ترقرقت عيناي في الأثناء وأحسست بأن الصغير يتحدث ببراءة وبثبات أكثر من عز الدين، ربما لجهله بالواقع ويحسبه من باب اللهو حسب عمره، أما عز الدين يغلب عليه طابع الحزن في لهجته وحتى في ملامحه، كونه يستوعب ما يحدث من حوله، لذلك تختلط عنده الأشياء، طموحه ورغبته في الحياة مع الضياع والتشرد وإن كان جزئياً.
بلاد الذهبين
ما أسلفته ليس من نسج خيالي بل واقع صادفته في طريقي إلى عملي، وليس عز الدين وأخوه وحدهما بهذا القدر من العوز، بل هما مثال لحكاية كثيرين يشاركونهم الجوع والعري، ويتلقون دروس الشارع البذئية بدلاً من ولوجهم مدارس على نفقة الحكومة، وهذا أقل حق من حقوقهم، هذا الفقر المدقع الذي يضرب أطنابه في البلاد، إذ أن تعثر خطط التنمية وخاصة في الأرياف التي صارت طاردة جعلت الجميع يزحفون نحو العاصمة، التي هي الأخرى ضاقت بمن فيها، حيث تنامت عمالة الأطفال وتضاعفت أعداد العطالة حسب آراء خبراء اقتصاديين، نقر بوجود مشاريع وتمويلات من قبل الجهات المعنية، لكنها لا تشكل قطرة في بحر، وسط أعداد الأسر الفقيرة التي تسعى للعيش الرغيد في بلاد الذهبين الأسود والأصفر.
مهنة الورنيش
“نذهب إلى معسكر النازحين لتناول وجبة نسد بها رمقنا، بجانب تلقينا بعض الدروس مع تلاميذ المعسكر، وهذا مهم بالنسبة لنا”.. هكذا قال عزالدين عندما سألته: لماذا يذهبون من حي مايو الذي يقطنونه قاطعين الفيافي إلى جبل أولياء، يقاومون برودة الطقس وقسوة زمن عرضهم لمهزلة في عمر مبكر؟ وأضاف: “مرات بنعمل في الورنيش حتى نجمع مالاً نقضي به حاجتنا فنحن مسؤولون عن ذاتنا”. سألته: “أين والديكم؟” أجابني: “والدتي سافرت وأبي لا يستطيع لوحده أن يوفر لنا سبل الحياة، فكل شيء أصبح غالي الثمن.. كنا ندرس في الجزيرة ولكن هنا عجزنا، لذلك نعمل لجمع المال حتى نواصل تعليمنا فيما بعد، بالإضافة إلى أخذ ما نحتاجه”.. هنا يفرض السؤال نفسه: من المسؤول عن هؤلاء القصر؟ تتشابك خيوط هذه القضية، ولكن حتما لابد من وضعها فوق طاولة من الجهات المعنية، وإن صعب الأمر.
عاصمة الفريقين
دار جل الحديث في مسافة قصيرة وبضع دقائق، لكنه ترك أثرا في داخلي، كما يترك مشاهد تتكرر في كل شوارع عاصمة الفريقين وأزقتها.. أطفال جاءوا إلى البسيطة دون استئذانهم، ورمى بهم ثنائي الفقر والعوز على الأرصفة وخيم معسكرات اللاجئين أيضا دون رغبتهم، ولكن من يرغب في إحياء الشفقة والرحمة في بطينات قلبه بعيدا عن المسؤولية والواجب، فلينظر في أمر أبرياء يعانون وراء لقمة العيش ودراسة جملة عربية أو مسألة رياضيات، كما يحدث مع عزالدين وأخيه.. ومن خلال حديثي معهما أدركت أنهما لا يملكان (حق المواصلات) واستاذنا من سائق المركبة، ولكن لم يكتمل المشوار، بل سيمتطيان مركبة عامة مرة أخرى لبعد المسافة، ما كان مني إلا أن أعطيهما ولو آخر قرش بحوزتي، ما جعلني أبتسم رغما عن إحباطي الشديد ابتسامة الصغير، وأردفها بكلمة شكر نزلت على قلبي المحروق كالثلج عندما أعطيتهما قليلاً من الجنيهات، وأنا أستحي وأتحسر كوني لم أستطع تقديم الكثير وقتئذ.
أعمال شاقة
إلى ذلك، قال عبد المعبود عثمان – أعمال حرة بكوستي – عمالة وتشرد الأطفال حقيقة يتعايش معها المجتمع حاليا ولا فكاك منها إلا بالإصلاح الاجتماعي والاقتصادي والأخلاقي، كون الدين والقانون يمنعان عمالة الأطفال. وزاد: “يوجد الآلاف من عزالدين يعملون بأعمال شاقة وغيرها لا تتحنلها أجسادهم ولا إذهانهم، وتتعدد الأسباب منها تنصل الدولة من الصرف والإشراف على أولويات الحياة، سابقاً كان التعليم والعلاج والأكل والشرب وحفظ وسلامة الطفل على عاتق الدولة”. واستطرد عثمان: “نحن عندما عشنا طفولتنا تعلمنا في رياض ومدارس الحكومة مجانا وكنا أبناء عمال وموظفي السكة حديد، بجانب السكن والعلاج والملبس علاوة على السفر بعربات السكة حديد والنقل النهري، جل ذلك على حساب الدولة، لماذا يعمل عزالدين ومعظم السودانيين والقياديين الآن، وكان تعليمهم وعلاجهم وحتى بعض مساكنهم مجانا معظمنا أبناء الفقراء مثل عزالدين”. وأشار إلى أن الفاقد التربوي هو الذي سيهزم البلاد لأن التعليم أساس التطور.. وهنا نتساءل: “هل وجد الأشقاء العون ويد المساعدة حتى يلحقوا بإخوانهم في قاعات الدرس أو رواكيب الفقراء في البوادي التي أتوا منها؟ لا أعتقد ذلك كونهم وجدوا الرعاية والأكل في معسكرات اللجوء والنزوح، التي وفرت حتى لا يحمل عزالدين وأمثاله الحقد والكره للمجتمع، وهو ينظر إلى أقرانه ينعموا بالتعليم والعلاج والسكن والأكل وماء الشرب النظيف، وهو تحفت قدماه ذهاباً وإياباً من أجل ذلك”. وختم عثمان حديثه: “بالتأكيد سوف يضمر الشر لكافة المجتمع كونه صغيراً لا يميز الصالح من الطالح والحاكم والمعارض بالتالي يجب تضافر جهود المجتمع المدني، حتى تعالج مشاكل واحتياجات الذين يفتقدون العائل والكافل لظروف الحرب اللعينة التي هي السبب الرئيس في ما يحدث لأطفالنا، بجانب العوز المدمر لنسيج الأسرة والمجتمع”.
اليوم التالي