من دفاتر المغتربين.. قصص وعبر حصاد العمر

لم يكن يشتهي حياة الغربة والتشرد والسهر والنكد والعذاب عندما حمل حقيبته وغادر مطار الخرطوم إلي دول الخليج ، كان أكبر أحلامه أن يبني بيتا محترما يلم شعث أسرته ومن ثم الحصول علي قدر من مال النفط المسال ليبني ويؤسس به مشروع المستقبل …
لم يدخر طاهر جهدا في سبيل هذا الحلم النبيل ، أخذ يعمل ليل نهار دون كلل أو ملل ، وكلما توفر له شيئا من المال بعث به لشقيقه الأكبر حتي تمكن من شراء قطعة سكنية في حي راقي وقام شقيقه الأكبر بالإشراف علي البنيان حتي اكتمل البيت .. وشعر طاهر بفرحة عارمة جعلته يتذكر نفسه ويفكر لحاله ويقوم بإكمال نصف دينه ، ويتم الزواج ويرسل لزوجته لتقيم معه بالخليج ، وتمر السنوات سريعا ويرسل طاهر كل ما معه من مدخرات لشقيقه ليقوم عليها مستثمرا …
وبعد أن حقق كل أهدافه وأحلامه من الغربة عاد لأرض الوطن ، عاد يملؤه الشوق والحنين ويفتح ذراعيه لصدر أم أظمأته الغربة لحضنها وأخ جعله في مكانة والده وإئتمنه علي كل مدخراته وأمواله وأصوله …
ليتلقي أول صفعات الحياة من شقيقه والذي طرده من البيت وقال له بكل جرأة وعدم إنسانية : ليس لك مكان هنا معنا ، خذ زوجتك وأولادك واستأجر في أي مكان آخر ، وليكتشف طاهر أن شقيقه قد قام بتسجيل البيب بإسمه وكل أملاكه !!!
ويلوذ طاهر بصدر الأم التي ما ترك شيئا من اجل رضاها وسعادتها ولم يفعله فيجدها قد وقفت في صف ابنها الأكبر …
فيخرج طاهر من بيته ويسكن في بيت الإيجار وتأبي نفسه الطاهرة غير الصبر وحسن العزاء في الوالدة والشقيق !؟
فتسوء أحواله ويتحول الي رجل معدم وفقير ويأتيه القاصي والداني وينصحونه بأن يشتكي للقضاء ، فتأبي نفسه ذلك ويقول لهم خير لي نار الدنيا من نار الآخرة ، كيف أشتكي وأمي تقول لي : لو اشتكيت اخوك ده ، أنا ما عافية منك !؟
لقد احتسبت كل ذلك عند الله وما عند الله خير وأبقي ..
ومضت الأيام وطعم الألم والحزن والقهروالظلم ..
وظلم ذوي القربي أشد مضاضة
علي المرء من وقع الحسام المهند ..
كل ذلك إعتلق في قلب الفتي وسيطر علي تفكيره فأصابه المرض والهزال ولم يجد من يقف الي جواره سوي زوجته المسكينة ليلفظ آخر أنفاسه بين يديها ويموت من الحسرة والألم والوجع ويودع هذا العالم الظلامي المادي المتعفن والذي لا عهد فيه لأحد .. يغادر في صمت دون محاكم ودون فضائح ليدفع أغلي ثمن تلك النفس العالية
والروح السامية التي لم تحصد سوي الحزن والألم والوجع والدموع ..
مات طاهر ولكن موته كان مشرفا له برغم المأساوية ، نعم لقد فقد المال والبيت ولكنه لم يفقد الضمير والصواب ، فهل سيهنئ شقيقه من بعده وهل ستسعد الأم وقد ضحي بروحه من اجل رضاها ؟
ومتي سيستيقظ الضمير عند هؤلاء ؟
لست أدري .

أحمد بطران

Exit mobile version