في اقتحام غير آمن نجحت الصحفية السودانية المعروفة محاسن أحمد عبد الله في الوصول لمعقل متعاطي مادة “السليسيون” المخدرة من المشردين في على الطرقات وخرجت من هذا الاقتحام بمادة دسمة رصدها محرر موقع النيلين الذي قرأ كل تفاصيل الرصد والحوارات التي أجرتها الصحفية مع المشردين.
وتقول محاسن حسبما قرأ محرر موقع النيلين لم يكن الوصول إليهم و التحدث معهم بالأمر السهل أو اليسير، وأنا أحاول نزع إعترافات حقيقية من أهل الشأن أنفسهم وهم (المشردين)، وتحديدا الفتيات وتعاطيهن لمادة (السلسيون) المخدرة و القاتلة، قبل وصولي للمكان المعني كان لابد من قراءة سريعة للمشهد و مدخل معين أدلف من خلاله لمعرفة ما يدور في أعينهم و ما تحمله نظراتهم من تساؤلات كثيرة ومبعثرة، من بينها من هؤلاء..؟ و من أين أتوا..؟ وكيف يعيشون..؟..حملت كل هذه التساؤلات ووضعتها نصب عيني و انا اتجه إلي وسط الخرطوم و تحديدا الناحية الجنوبية لكبري (المسلمية) -الذي يقبع تحت التشييد- بينما تقيم مجموعة من المتسولين و المتشردين و (الشماسة) مملكة ضخمة هناك، وهي التي اقتحمناها مع سبق الاصرار والترصد.
(1)
توقفت سيارتنا قبالة كبري المسلمية مباشرة حيث كان بعض المشردين يتمددون مفترشين الأرض و يضعون علي روؤسهم الطوب كـ(وسادة) وبجوارهم بعض الأواني القديمة و الصدئة التي يضعون فيها بقايا الطعام الذي إقتاتوه من المطعام و براميل القمامة والذى يعرف بـ(الكرتة)، فيما كانت بعض الملابس الرثة والقطع البالية تتناثر هنا وهناك.
(2)
توجهت نحوهم بخطي ثابتة حتي لاامنحهم الفرصة لاتخاذ اي ردة فعل، لكنهم وبمجرد ان تقدمت خطوات نحوهم حتى بدأوا يطلقون عدداً من العبارات من بينها: (على وييين..؟…شتتي يابت من هنا)، لكنني لم آبه لحديثهم بل تماسكت و تقدمت نحوهم وأجبتهم بحسم: (عندي شغل هنا المشكلة وين).؟..وقتها إندهشوا لحسمي لهم و صمتوا جميعوا و هم يشيرون بإيديهم بمعني (إتفضلي).!
(3)
تقدمت بخطوات مسرعة غير آبهة بهم لإعلي الكبري و علي رأسه وجدت فتاة تتبع للمجموعة الأولي في العقد الرابع من عمرها فألقيت عليها التحية ثم سألتها (إنتي ساكنة هنا).؟.. أجابتني وهي منشغلة بالنظر علي فتحة تحت الكبري: (آي ساكنة هنا بس ملابسنا تحت وجيت أشيل غيار…في حاجة).؟..وقتها ألقيت نظرة حيث أشارت بيدها فوجدته عبارة عن فتحت صغيرة من أعلي الكبري تقبع في قاعها بعض من الملابس المهترئة، فواصلت أسئلتي لها بعد أن عرفتها بنفسي و بمهتمي الصحفية و قبل أن تجيبني سارعت قائلة: (راجلي هنااااك)، نظرت ناحية إشارتها فعرفت أنه أحد الشباب الذين كان يجلسون في بداية الكبري مع رفاقه، فتقدم نحوي بخطوي متثاقلة جدا ورائحة الخمر تفوح من فمه فسألني مباشرة:(أها الحنك شنو).؟..أجبته: (عندي شغل مع زوجتك وشغل معاك عن السلسيون)، وقتها صمت برهة قبل أن يجيبني قائلا: (الزولة دي كانت مدمنة سليسون لما إتزوجتها طلبت منها تخلي السلسيون نهائي وتخلي المشي مع الأولاد الكتاااااار ديل من الشماسة ووافقت)، هنا وجهت سؤالي لزوجته مباشرة:(إسمك منو.؟ وقصتك مع السلسيون شنو.؟) أجابتني: (إسمي (ر) وأهلي من منطقة (…) وانا كنت بحوم مع مجموعة من الأولاد والبنات (الشماسة) وبنمشي السينما و نمشي المطاعم ونشرب السلسليون و البنزين وآخرالليل ننوم في الشوارع أو المجاري، وإتعلمت شم السلسيون من بدري شديد، ولما أشمه بحس براحة شديدة بعدها بكون فاقدة الوعي لدرجة إني بقع و جسمي يتجرح و نعمل مشاكل مع بعض)، مواصلة: (كنا نشتري السلسيون من سوق أم درمان من ناس العجلات، والصباع وقتها كان بي جنيهين اما الان بقي بي خمسة جنيهات، والمشكلة كل ما الحكومة زادت سعر المواصلات و العيش ناس العجلات بزيدوا لينا سعر السلسيون لحدي ما وصل سعر الصباع الواحد خمسة جنيه)، واختتمت: (بعد فترة لقيت انو مافي فايدة من السلس دا، لأنو (بخرم) الفشفاف والزول بموت في النهاية، عشان كدا اتزوجت وبقيت عايشة القط في رزقي من هنا ومن هنا ومامعروف مصيرنا كيف، ممكن نموت من البرد..وبرضو ممكن نموت تحت لستك عربية).!
(4)
إلتقط بعدها القفاز مباشرة زوجها الذي عرف نفسه بلسان ثقيل وعينين شبه مغمضتين قائلاً: (إسمي (ب) وعندي طفلين من من (ر) ونحنا متزوجين لينا ثلاث سنوات، من شارع لي شارع ومن زقاق لي زقاق لكن الحمدلله ألأكل والشراب الواحد بيتصرف و يجيبهم، أما بالنسبة للسلسيون ما بشموا نهائي بس بشرب (عرقي) لكن ربنا يهديني، والزول البشمو ما عندي ليهم حاجة نهائي والكلام ده قلتو لي مرتي ووافقت عليهو زمان)، بعد فراغه من حديثه سألتهم عن قدوم موجة البرد الشديدة هذه الايام وهل ينامون فوق الكبري.؟..فكانت الإجابة من الزوج (ب) والذى قال: (بننوم تحت هنااااااااااك) مشيرا بيده شرق الكبري، فطلبت منه الذهاب للنظر إليه فأجابني بسرعة: (لا لا لا المكان دا كان مجري ووسخان شديد محتاج لي نضافة).!..عن مطالبهم و إحتياجاتهم قالت (ر) أنهم في حوجة لـ(بطانيات وسيوترات) لأنهم يعانون من موجات البرد الشديد، كما أنهم بحوجة لـ(مراتب و ملايات) حتي يستطيعوا النوم عليها.
(5)
في ذات المكان كانت هناك سيدة في العقد الخامس من عمرها جالسة علي الأرض و بجوارها شاب يافع في مقتبل العمر، في البدء إعتقدت أنه إبنها لكني تفاجأت عندما علمت بأنه زوجها فسألتها عن إسمها وأسرتها فكانت إجابتها: (إسمي (ف) وأهلي نصهم هنا و النص التاني بعيدين من هنا، وعندي أولاد لكن أي شافع في مكان بشوف رزقو)، واشارت للشاب الذى بجوارها مضيفة: (الولد ده زوجي و ساكنين هنا في الكبري ده وممكن تلقينا في مكان تاني ،المهم مكان نخت فيه رأسنا)، وجهت إليها سؤالا إن كان تتعاطى (السلسيون) أم لا، لكنها صمتت ورفضت الإجابة وأزاحت وجهها بعيدا عني، فيما قامت بدسّ بقايا أكياس من السلسيون كانت بجوارها تحت الوسادة البالية التي تجلس عليها، اما زوجها فقال: (إسمي (م) وانا اتعاطي السلسيون من بدري خالص وما بقدر أخليهو، لأنو بخليني اعيش في دنيا حلوة بعيد عن التعب وبخليني انوم في أقرب شارع و ما عندي حاجة لي زول والشلة الشايفنها دي كلنا أخوان نحوم بالنهار ونأكل من الكوشة وآخر الليل ننوم في أي ملف)، وعن أساب إتجاههم لذلك الطريق قال وهو يرسم ابتسامة ساخرة على شفتيه: (يعني نعمل شنو.؟.. نحنا ما بنعرف نقرأ و لا نكتب..طيب نقبل وين …احسن تخلونا في حالنا).!!
(6)
وانا اهم لاعلان مغادرتي للمكان، لحق بي أحدهم قائلا: (ما سألتيني أنا ليه زيهم.؟..و لا شكلي ما سمح يظهر في التلفزيون)، فضحكت و قلت له: (العفو ما قاصدة…نحن ناس الجريدة ما ناس التلفزيون)، فرد سريعاً: (كلو واحد…المهم أنا كنت بسكر و بشم بنزين و بتسطل و حرامي و خليت الكلام ده كلو لأني داير كده، يعني ما عشان ناس الحكومة.!..وبقيت أفتش في شغل لكن ما في زول داير يشغلني عشان كدا رجعت لي شلتي دي و (العضة) بنقسمها سوا و الهوا الجاي بنتضاير منو و أنا موظف أحسن منهم بشتغل طلبة يومية)، واختتم حديثه: (بالله ما تنسي كل مرة تكشفي لينا بي جاي عشان تعرفي الحنك شنو).!
(7)
غادرت المكان مسرعة بعد أن طالبني الشباب الذين كانوا مستلقين علي الأرض أول الكبري بعبارة :(شتتي يا فردة) مع التهديد و الوعيد إن لم أذهب، فيما لحقتني كلمات (ب) وزوجته (ر) بإلحاح و هم يطلبون مني بأن لا أنسي و أتي لهم بـ(البطاطين و السويترات)، غادرتهم و في قلبي أسي و ووجع شديد لما يحدث وفي عيني بقايا أدمع لم يجففها منديلي و أنا أردد (العين بصيرة و الأيد قصيرة).
(8)
بعض اسئلتنا حملناها و ذهبنا بها إلي إحدي متاجر بيع و إصلاح الدراجات و التي تقوم ببيع مادة (السلسيون) التي يتم إستخدامها في الأصل للرقعة، وحول الموضوع تحدث لـ(السوداني) صاحب المتجر فخر الدين علي احمد قائلا: ( يستخدم السلسيون كمادة لاصقة للرقعة لكن بعض من ضعاف النفوس أصبح يستخدمه إستخدامات أخري سيئة وهو يعتبر نوعا من المخدرات بواسطة الشم إذا تم إستخدامه لهذا الغرض و يباع الصباع منه بمبلغ خمس جنيهات)، موضحا: (أنا لا أبيع السلسيون لأي شخص إلا إذا كان صاحب بنشر فهو يشترتيه بـ(الباكو) للرقعة أو إذا إضطررت لبيعه لإي شخص فأتأكد منه عن ماذا يود أن يفعل به، مشيراً إلي أنه يتم إستيراده من دولة الصين بحاويات كبيرة جدا، مطالبا في الختام المسؤولين بالانتباه لـ(الكونتينرات) التي تدخل محملة بـ(السلسيون)متسائلاً: هل من المعقول أن يتم إستهلاك كل هذه الكمية (السلسيون) في الرقع فقط..؟ أم أن الإستهلاك يمتد لإغراض أخري..؟
(9)
من جانبه أكد العم خميس عبيد الذي يعمل في مجال (رقع) للعجلات لـ(السوداني) أنه يعمل منذ سنوات طويلة في هذا المجال بإستخدامه مادة (السلسيون) للرقع، مشيرا إلي أن عدد كبير من الشماسة يستخدمونه للتعاطي إلا أنه يمنعهم منه، لكنه متاح لهم ويشترونه من عدد من المحال بإمدرمان، مطالبا الجهات المعنية بالأمر بالنظر في الموضوع بإعتباره ظاهرة سيئة، في الوقت الذي بينت فيه الدراسات أن المواد التي تُصدر أبخرة وتباع بطريقة شرعية في الأسواق كالمواد اللاصقة والبنزين و (التنر) ومواد التنظيف والسوائل المذوّبة هي موضع إدمان عدد من الأطفال والمراهقين لتوافرها ورخص ثمنها ما يكون بطريقة الشم من المستوعب، أو بعد وضع المواد في كيس بلاستيكي أو غيره لاحتواء الأبخرة وزيادة الفعّالية فتضع هذه المواد المتعاطي في حالة نشوة قصيرة تتبعها حالة مشابهة للسُكر قد تؤدي الى الهلوسة البصرية والسمعية وعند الشعور بالحاجة له وفي حال عدم توفر هذه المواد قد يصبح المدمن عدائياً.
(10)
من جانبهم حذر عدد من الأطباء من المضاعفات الصحية و الخطيرة التي يتسبب فيها مخدر (السّلسيون) والتي يمكن أن تقود إلى حالة غيبوبة وأزمات قلبية وتنفسية وتسمّم بعض الأعضاء مؤكدين أن معظم المدمنين هم من أصحاب المهن الذين قد يتحول عندهم الاعتياد إلى إدمان، إضافة إلى الأطفال والمراهقين من الشماسة الذين يجدون في هذه المواد غير الممنوعة والرخيصة سبيلاً للوصول إلى النشوة للعيش في عالم من الأوهام، مضيفين بأن التأثيرات الفيزيولوجية للتعاطي المتكرر لهذه المواد فقد تكون على شكل خلل في الدماغ أو الرئتين أو الكبد أو الكليتين أو العينين أو الأعصاب أو النخاع العظمي وقد تظهر عوارض الإدمان كحالة تشوش ذهني في المرحلة الأولى لتصل الى حالة الغيبوبة، ومن الممكن أن تقع الوفاة فجأة فضلاً عن حالة الإدمان النفسي على هذه المواد التي غالباً ما تكون بابأً نحو تعاطي مواد مخدرة أكثر خطورة.
(11)
الباحثة الإجتماعية هدي عبدالصمد أكدت بأن تفشي حالات الإدمان بإستخدام مادة السلسيون المخدرة وسط صغار السن من الشماسة متزايدة بصورة مريبة جدا وعلي مرأي و مسمع الجميع، موضحة: (بالتأكيد تتزايد نسبة التعاطي لدي (الشماسة) و المشردين في الوقت الذي تتواجد فيه تلك الفئة في المجتمع بين أطفالنا وأبناءنا ما يؤثر علي الأطفال من المراهقين الذين يسعون لـ(التجريب)، موضحة: (هذه مؤشرات خطيرة جدا لتفشي حالات الإدمان عبر تلك المادة والسبب يعود لأنها رخيصة الثمن وخطورتها أكبر من (البنقو) و الحشيش وهي كذلك متاحة و بكثرة و مدمنها يسير بيننا و يتعاطاها امامنا جهاراً نهاراً، لذلك لأبد من محاربة هذه الظاهرة بطرق مختلفة تتمثل في الجدية و المتابعة ونشر الوعي و إعادة التأهيل و إتاحة فرص العمل لهؤلاء الشباب المتضررين ودمجهم في المجتمع.
ياسين الشيخ _ الخرطوم
النيلين