الهدف الرئيس لمقترحنا لعلاج تدهور سعر الصرف الخروج من دائرة الإجراءات الإدارية العقيمة بتنفيذ حزمة متكاملة من السياسات تمكن الاقتصاد من استعادة عافيته تدريجياً
لو تبصَّر الرجل في قوله وقولنا لاكتشف أنه حشر “يمول من” بين كلمتي الإنفاق والضرائب ستوقعه في خطأ جسيم لا يرتكبه حتى أصحاب السوابق في القرصنة العلمية
لوائح وقوانين صندوق النقد الدولي لا تسمح بتعددية أسعار الصرف في الدول الأعضاء، لذا كان لزاماً علينا وقتها في عهدي كوزير أن نأخذ موافقة الصندوق، والتي تحصلنا عليها بعد اقتناعه بسلامة حزمة السياسات المالية والاقتصادية، بما فيها سعر الصرف
باقي السياسات المكملة لسياسة سعر الصرف لم تنفذ لعدم توفّر المناخ والدعم السياسي اللازمين ما دفع بي من ناحية أخلاقية ومهنية للاستقالة من الوزارة بعد سبعة أشهر من تولي المنصب.
الفجوة بين الواردات والصادرات ليست هي السبب في تدهور سعر الصرف، وإنما هي نتيجة للسبب الحقيقي وهو تراجع الإنتاج في القطاعات الحقيقية كالزراعة والصناعة كما وثقنا في مقالنا.
ترحب (الصيحة) مجدداً بإطلالة د. التجاني الطيب إبراهيم، الخبير الاقتصادي السابق بصندوق النقد والبنك الدوليين، وزير الدولة للمالية والتخطيط الاقتصادي إبان فترة الديمقراطية الثالثة، والأستاذ المشارك والمحاضر السابق في الاقتصاد الكلي بجامعة الخرطوم وجامعات ومعاهد عليا في ألمانيا الاتحادية والولايات المتحدة الأمريكية، والمستشار المالي والاقتصادي لعدة مؤسسات إقليمية ودولية، عبر صفحاتها بنشرها لمقال يردّ فيه على تعليق حول مقال سابق نشره في السادس والعشرين من شهر سبتمبر الماضي بعنوان: ” تدهور العملة السودانية… الأسباب والعلاج”. وننشر اليوم المقال الذي يأتي نشره بالتزامن مع الزميلة (التيار)، وهو بعنوان: (تدهور العملة السودانية… تناقضات ومغالطات).
————-
كمساهمة منا في النقاش الدائر حول تدهور الجنيه السوداني مقابل العملات الأجنبية قابلة التحويل وكيفية التعامل معه، نشرت لنا بعض الصحف المحلية والشبكات الإسفيرية مقالاً في السادس والعشرين من شهر سبتمبر الماضي بعنوان: ” تدهور العملة السودانية… الأسباب والعلاج”. حاولنا في هذه المقالة المتواضعة تجذير أسباب وعلاج المشكلة، وقدمنا مقترحاً عملياً مفصلاً كنا نأمل أن يكون حافزاً لغيرنا من الاقتصاديين ليدلوا بآرائهم ومقترحاتهم، ففي النهاية، فالاقتصاد هو علم البدائل. لكن “تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن”، فقد خرج علينا بعد ثلاثة أسابيع من نشر المقال من اعتقد وهماً أنه صاحب علم وحجة تضعف من مصداقية الحصيلة المعلوماتية والعلمية التي بنينا عليها تحليلنا ومقترحنا بمهنية عالية موثَّقة لا تحتاج إلى شهادة أو إطراء من أحد. للأسف، كنتُ وقتها خارج البلاد، ولم أعلم بأن هناك من علق على مقالنا إلا لاحقاً. وعند العودة إلى الداخل، فضلنا الاهتمام بما هو أهم: الإجراءات الاقتصادية الأخيرة، وأداء النصف الأول لموازنة 2016م، والتوقعات لبقية العام المالي. لذلك، نرجو المعذرة لتأخير الرد، مع التأكيد على أن بذاءة الكلام تقابَل بالحقائق والسلوك المتحضِّر لا بعناوين ومحتويات صحف التابلويد الرخيصة غير المحتشمة دون أن نحصب حلقوم أحد حتى ولو كان من أدعياء العلم والمعرفة.
في مجمله، التعليق ساده – للأسف – التخبُّط والزيف بعيداً عن الدقة والمصداقية العلمية حتى في الاقتباس. فما كتب المعلق لا يعدو أن يكون مجموعة خواطر إنشائية ركيكة الأسلوب متضاربة ومغالطات غير مؤسسة لا علمياً ولا منطقياً تنساق على حسب ذوق واشتهاء المعلّق. فمن الواضح أن كل ما اشتهاه المعلِّق أن يبرهن، ربما لنفسه قبل القارئ، أنه أكثر فهماً للاقتصاد كعلم ومنهج اجترأه من مغالطات وتناقضات حاول دسها في ثنايا قوالب علمية مزعومة لا ترقى حتى إلى مستوى سنة أولى اقتصاد كما سنرى لاحقاً. وقد يكون الدافع هنا الظن الآثم أن شهية القارئ مفتوحة للمغالطات والتناقضات الإنشائية الانصرافية أكثر من شهيّته للتحليل الاقتصادي الموثَّق والأطروحات العلمية، التي تحتاج إلى كثير من الجهد المعرفي والخبرة المهنية بعيداً عن قاعات المحاضرات وتكرار محتويات المراجع العلمية الأولية. لكن القراء خيَّبوا ظن من أساء الظن، فرد عليه أحدهم بقوله: ” في اعتقادي الشخصي أن تحليلك وردك على مقال التجاني الطيب أحسبه من باب خالِف تُذكَر…”. وأردف قارئ آخر: ” ده إنت اللي جيت تكحلها وما عرفت أصلاً من وين تجيب كحل…”. كان بالإمكان أن نكتفي بردود القراء العديدة، التي عكست وعي ومقدرة القارئ السوداني على التفرقة بين المعرفة والفشل المعرفي، لكن هناك مغالطات وتناقضات ذات طابع علمي ومعرفي لا بد من كشفها وتصحيحها حتى يطلع القارئ على الوقائع والحقائق الموثقة بعيداً عن زيف المغالطات والتناقضات الأبجدية.
بادئ ذي بدء، قال صاحب التعليق أنه لا يحب “… التعليق على آراء الآخرين ولكن عندما يكون للآراء وزن خاص لدى الناس نسبة لسمعة صاحبها فإنها تستحق التعليق”. في الواقع، هذه كلمة حق أًريد بها باطل، لأنه وبعد اقتباس ما يعادل صفحتي فلسكاب من مقالنا، لم يعلق على أي من آرائنا بل قفز إلى خلاصة نصها: “ولكن مأخذي الأساسي على طريقة تفكيره (المقصود هنا أنا) هي أنه تحكُّمي المزاج أي أنه يميل إلى مواجهة المعضلات الاقتصادية مثل انهيار سعر صرف الجنيه السوداني بالإجراءات الإدارية الحكومية التحكُّمية وليس عن طريق تنشيط تفاعل قوى السوق من مستثمرين وممولين ومنتنجين وبائعين ومشترين إلخ. وقد لاحظت فيه ذلك منذ أن كان وزيراً للدولة بوزارة المالية في الديمقراطية الأخيرة… وسوف أتناول في هذا المقال أهم ما جاء في مقاله.” هذه فقرة هامة أريد الوقوف عندها قليلاً قبل أن أعود إليها لاحقاً. أولاً: سعر الصرف ليس بمعضلة، وإنما انعكاس لمعضلة عدم التوازن في الاقتصاد الكلي التي سنأتي إليها فيما بعد. ثانياً: لو قرأ المعلِّق مقالنا بشيء من العناية وذهن مفتوح، لما انزلق إلى فهمنا على هذا النحو شديد الخطأ. فالهدف الرئيسي لمقترحنا لعلاج تدهوُر سعر الصرف الخروج من دائرة الإجراءات الإدارية العقيمة بتنفيذ حزمة متكاملة من السياسات المالية والاقتصادية تمكن الاقتصاد من استعادة عافيته تدريجياً لردم الفجوة بين الإنتاج والاستهلاك الكليين، وبالتالي التحسُّن المستمر لسعر العملة الوطنية حتى الوصول إلى أو ما يقارب سعر التوازن (تساوي المطلوب والمعروض من النقد الأجنبي)، وترك الأمر لآلية السوق بعد ذلك، ثالثاً: واجب الاقتصادي هو تقديم الأطروحات العملية المدروسة التي تساعد في تهيئة البيئة الاقتصادية اللازمة للحراك الحُر والعادل والمستدام لكل أطياف “قوى السوق”، وهذا ما درجنا عليه في كل أطروحاتنا مع علمنا التام بأن خروج الحكومة من إدارة الاقتصاد بالإجراءات الإدارية وإعادة الحياة للقطاعات الإنتاجية لا يتم بين عشية وضحاها.
لكن الطريف أن المعلِّق بعد أن أصدر حكمه على مزاجنا لم يلج مباشرة إلى مناقشة “أهم ما جاء في…” مقالنا كما قال، بل نصَّب نفسه فقيه تفسير مفردات اقتصادية، فلنستمع إليه: “يقول الدكتور التجاني… إن الوضع الاقتصادي السوداني المتأزم هو انعكاس لحالة عدم التوازن في الاقتصاد الكلي. ولكن لم يوضح ماذا يعني بعدم التوازن، فالقارئ يحتاج لشرح ذلك الكلام حتى يفهم ما يقول الدكتور التجاني. وسوف أركِّز على النقط الجوهرية في مقاله وهي الخاصة بالإنفاق الحكومي وتوصياته بخصوص سعر الصرف.” لتقريب الصورة للقارئ، نحن الآن في نصف التعليق وما يزال المعلّق سوف يركز على ” النقط الجوهرية” في مقالنا، وهما في الواقع نقطتان كما ذكر أعلاه، لكن يبدو أن الكاتب من محبي “النفط” لا النقاط. أما بخصوص عدم التوازن، فقد فسّرناه في مقالنا كالآتي: “الوضع الاقتصادي السوداني المتأزم هو انعكاس لحالة عدم التوازن في الاقتصاد الكلي ناتجة عن ” (1) التوسع المستمر في الإنفاق الحكومي الجاري حتى انفصال الجنوب عبر الموازنة العامة للدولة والتجنيب للصرف على الصراعات المسلحة الدائرة في ربوع البلاد، و(2) التراجع المتواصل لأداء القطاعات الحقيقية الرئيسية الزراعة والصناعة، ما أدى إلى ظهور اختناقات هائلة في العرض (الإنتاج) المحلي…”. هذا النص، اقتبسه المعلِّق في بدايات تعليقه، ثم عاد واقتبس الجزء الأول منه أعلاه ليقول للقارئ الذي لم يشتكِ أصلاً من عدم فهم التعبير، أننا قصّرنا في حقه، ولم نشرح له صدره ليفهم ما نقول، دون أن يتبرّع بشرحٍ من عنده كما فعل في حالة الإنفاق الجاري أدناه، خاصة وعدم التوازن في الاقتصاد الكلي تعبير علمي أساسي. رغم ذلك، فلم يكُن من مسوِّغ لأن يقول المعلّق ما قال ويرمي بنفسه في واحدة من دلائل الغفلة بدلاً من التأنّي في القراءة والفهم.
أما فيما يختص بالتركيز على النقطة “الجوهرية” الخاصة بالإنفاق الجاري، فقد بدأه المعلّق بسؤال يدعو للشفقة والخجل: “ما هو الإنفاق الجاري الحكومي؟” وإليك أيها القارئ أهم المقاطع من درر الإجابة: “كما يعرف القارئ الكريم يشمل الإنفاق الجاري الحكومي دفع أجور وامتيازات كل العاملين في الدولة مثل أعضاء المجالس التشريعية… والإنفاق على مدخلات التشغيل مثل الوقود والأسلحة والذخيرة… إلخ. ولذلك أعتقد أن إرتفاع الإنفاق الحكومي ليس مشكلة في حد ذاته… بالنسبة لأوجه الإنفاق الجاري الحكومي فالشيء المعروف هو ضعف الإنفاق على الصحة والتعليم… ولذلك إذا كانت هناك فرص لتخفيض الإنفاق الجاري على الأوجه الأخرى مثل أعداد التشريعيين… وعلى الحرب… لذلك لا أعتقد أن هناك فرصاً كبيرة لتخفيض الإنفاق الجاري للحكومة…”. ورغم أن المعلّق ظل يغرّد حتى الآن خارج موضوعنا وبعيداً عن جوهر أي قضية محددة، إلا أننا سنختصر ردَّنا عليه هنا في الآتي: (1) إذا كان ” القارئ الكريم” يعرف ما يشمله الإنفاق الجاري فلماذا السؤال إذن؟ (2) نفس المعلّق كتب في إحدى الصحف السيارة بعد شهرين من تعليقه أعلاه ما يلي: ” ولكن سواء ذهب حكم البشير أم لم يذهب فإننا نحتاج لرفع دعم الاستهلاك… ونحتاج إلى تخفيض الصرف الحكومي الجاري…”، دون أن يشرح معنى الإنفاق الجاري “للقارئ الكريم” كما فعل مع مقالنا، ورغم اعتقاده أعلاه بضآلة فرص تخفيض الإنفاق الجاري رغم بنود الصرف المتعدّدة التي رشّحناها لخفض الإنفاق الجاري بحجم مقدّر، الشيء الذي لم يعطه أي اعتبار؟! ومن يدري، فلعله تعلّم شيئاً في فترة الشهرين، لكن الاعتراف بالحق فضيلة. (3) من مساوئ الجهل المعرفي، ناهيك عن الجهل العلمي، أنه يوهم المصاب به بأنه على درجة عالية من العلم والمعرفة تمكنه من نقد كل شيء دون أن يشعر بأنه في الواقع لا ينتج أي شيء، إلا ما تيسّر من محض الصدف. فحصر الإنفاق الجاري في المواهي والأجور يفضح جهل المعلّق بمكونات الإنفاق الجاري. فحسب تقديرات موازنة 2016م، يستحوذ بند الأجور والمرتبات على 19 مليار جنيه فقط من اعتمادات الإنفاق الجاري المقدرة بحوالي 67 مليار جنيه، بينما يبتلع شراء السلع والخدمات (9 مليارات جنيه)، وتحويلات حكومات الولايات (20 مليار جنيه)، ودعم السلع الإستراتيجية كالقمح والمحروقات (9 مليارات جنيه) ما يجعل هذه البنود مجتمعة تمتص 85% من إجمالي اعتمادات الإنفاق الجاري، وما تبقّى يشمل احتياطي السلع والخدمات وتعويضات العاملين والتنمية والطوارئ، المساهمات الاجتماعية، والمنافع الاجتماعية… إلخ (للاستزادة أوصي بالاطلاع على تحليلنا: “موازنة العام المالي 2016م: العزف على أوتار الخيال”).
كل ما سقناه أعلاه يشير بوضوح الشمس إلى أن الإنفاق الجاري لا يشمل أي ذخيرة أو أسلحة أو بند صرف على الحرب، وإنما هذه شطحة، غفلة أخرى من نسج أوهام المعلِّق.
كنا نتوقع بعد السياحة الإنشائية حول شرحه للإنفاق الجاري وأوجهه وإمكانية خفضه، أن يأتينا المعلّق بقيمة مضافة من بنات أفكاره على ما قلناه حول الإنفاق الجاري نستنير بها وغيرنا في البحث عن كيفية معالجة تدهور سعر العملة الوطنية. لكن خاب الظن، إذ قفز الرجل مباشرة إلى: ” زيادة الكتلة النقدية وضعف النمو الحقيقي…”، دون أن يقول لماذا ودون أن يشرح ما هي الكتلة النقدية، لكن يبدو أنه يبيح لنفسه ما يعتبره نقصاً عند الآخرين! المؤسف، أن القفز في الظلام عادة ما يؤدي إلى التهلكة. وهذا ما حدث لمعلّقنا حيث أقدم وبكل جُرأة على تصرُّف غير محمود لمن يدعي العلم والمعرفة إذ سمح لنفسه أن يحرِّف كلامنا ويقوِّلنا ما لم يخطُر على بالنا! بدأ الرجل حديثه باقتباس صحيح نقله كالآتي: “يقول الدكتور التجاني أن أساس البلاء يكمن في السياسات المالية والنقدية التوسعية التي تقوم على مبدأ التوسع في الإنفاق العام وفرض الضرائب والجبايات دون المراعاة الكافية لأهمية وضرورة التنمية الاقتصادية والاجتماعية”. لكن بعد هذا النص المقتبس، أتى المعلّق بسوأة لا أظن أن عاقلاً قد سبقه عليها حيث قال:” وأرجو أن يلاحظ القارئ الكريم قول الدكتور التجاني بأن التوسُّع في الإنفاق يموَّل من الضرائب والجبايات. وهذا الكلام غير صحيح على الإطلاق”. وفعلاً صدق القائل:
وكم من طفيف… بصير الفؤاد وكم من فؤاد… كفيف البصر
فلو تبصَّر الرجل فقط في قوله وقولنا لاكتشف أنه حشر “يموّل من” بين كلمتي الإنفاق والضرائب ستوقعه في خطأ جسيم لا يرتكبه حتى أصحاب السوابق في القرصنة العلمية، ولن ينطلي على فطنة القارئ. لكن من الواضح أن المعلّق لا يأبه بنتائج الخطأ بقدر ما يهتم بتحقيق أكبر قدر من الأهداف ترضي ذوقه واشتهاءه بالتقليل من شأن الآخرين، ظاناً أن ذلك سيرفعه إلى مصاف من يمتلكون مزايا لا يمتلكها. لذلك، ليس غريباً أن واصل المعلّق سلسلة الأخطاء الفادحة بقوله: ” فنحن في السودان أقل شعوب الأرض دفعاً للضرائب، فإن ما ندفعه لا يزيد عن 7% من الناتج المحلي الإجمالي في الوقت الذي يدفع فيه غيرنا ما يزيد عن (20%)…”! هذا القول الاستفزازي، الذي يمثل قمة الفشل المعرفي، أثار حفيظة أحد القراء فرد عليه بنبرة غاضبة محقّة : “أنا لستُ أعرف أين تعيش فربما أنك لا تدفع ضرائب أو زكاة أو جبايات… ياخي الحكومة شغّالة قلع عديل… بالله دا كلام… نرجو إحالة الأستاذ لستات الشاي للتنوير”. وحتى لا يقع القارئ فريسة لمثل هذه النفايات العلمية، فنود فيما يلي أن نملِّكه بعض الحقائق، التي تكشف الضحالة المعرفية لمروجي تلك النفايات.
أولاً: نسبة الإيرادات الضريبية في إجمالي الناتج المحلي تسمى في الاقتصاد العبء الضريبي، وهذا ما قصده المعلّق، والرقم الذي ذكره (7%) صحيح حسب إحصائيات موازنة عام 2016م، والتي أخذنا منها الأرقام التالية: إجمالي الإيرادات الضريبية للعام 2016م (48 مليار جنيه)، مصادرها: الضرائب على السلع والخدمات (34,1 مليار جنيه)، الضرائب على التجارة والمعاملات الدولية (10,4 مليار جنيه)، الضرائب على الدخل والأرباح ومكاسب رأس المال (3,5 مليار جنيه). هذه الأرقام لا تشمل الرسوم الإدارية على السلع والخدمات المقدرة بحوالي (2 مليار جنيه). في الاقتصادات التي لا تعاني من تشوهات في الحصيلة الضريبية، فتقدير العبء الضريبي أمر سهل ويتم حسب ما ذكرنا في البداية. لكن الوضع في السودان مختلف ولا بد من أخذ ذلك في الحسبان، لأن التحصيل الضريبي تشوبه عدة تشوهات كالتجنيب، الفساد في تحصيل الضرائب المدفوعة، والرسوم والجبايات الولائية. التجنيب هو الإحجام عن توريد إيرادات ضريبية محصلة إلى الخزينة العامة وصرفها خارج قنوات الموازنة، وقد قدرناها بحوالي (20 مليار جنيه) بناء على معلومات استقيناها من حجم النقود خارج الجهاز المصرفي المضمّن في المسح النقدي لبنك السودان لعام 2013م. الفساد في تحصيل الضرائب هو أن المواطن يدفع الضريبة لكن تتم تسوية بين المحصّل وصاحب العمل، وبالتالي تصل الضريبة المدفوعة للخزينة العامة منقوصة ما يعني ضياع مبالغ مقدرة من الضرائب المدفوعة تقدّر بحوالى (7 مليارات جنيه). أما الرسوم والجبايات الولائية، والتي لا تُورَّد للخزينة العامة، فتُقدَّر حسب الأرقام الرسمية بحوالي (9 مليارات جنيه). هذه الأرقام تعطينا ما مجموعه (36 مليار جنيه)، وإذا أضفنا إليها الرسوم الإدارية على السلع والخدمات المذكورة أعلاه، فيرتقع الرقم إلى (38 مليار جنيه) دون الزكاة التي أصبحت ضريبة وضعية. إذا أضفنا هذا الرقم إلى إجمالي الإيرادات الضريبية المضمّنة في الموازنة العامة، فإننا نحصل على (86 مليار جنيه)، ما يُعطينا عبئاً ضريبياً في حدود 12% على أقل تقدير، علماً بأن إجمالي الناتج المحلي للعام قُدر بحوالي (709 مليار جنيه). وهذا العبء الضريبي هو الأعلى في مجموعة الدول الأكثر فقراً، والتي نجلس على ذيل قائمتها. أما الدول التي يبلغ فيها العبء الضريبي 20%، فتلك دول ذات اقتصادات ناشئة ومتقدمة، ومن الخطأ مقارنة السودان بها. أضف إلى ذلك أن تلك الدول تعتمد على ضريبة الدخل كمصدر أساسي للإيرادات الضريبية، بينما يعتمد السودان على ضرائب الاستهلاك، التي تمثل 93% من إجمالي الإيرادات الضريبية حسب أرقام الموازنة العامة المذكورة أعلاه. وهذا يعني أننا أكثر شعوب العالم دفعاً للضرائب وليس العكس.
وكعادته، فقبل أن يقول لنا المعلِّق ما هو الاستنتاج الذي توصل إليه من فرية أننا “أقل شعوب الأرض دفعاً للضرائب”، وما علاقة وفائدة ذلك الاستنتاج لموضوعنا، انتقل إلى الحديث عن الكتلة النقدية! وما يُحمد له هذه المرة أنه تحصّل على بعض الأرقام، التي لم يذكر مصدرها، أوصلته إلى اكتشافات أجملها في قوله إن: “.. الفجوة الكبيرة جداً بين الزيادة في حجم الكتلة النقدية (الطلب والزيادة في الناتج المحلي الإجمالي (العرض أو الإنتاج) هي السبب الرئيسي لارتفاع أسعار السلع والخدمات وتآكل القيمة الشرائية للجنيه السوداني وسعر صرفه. والسبب الآخر لانهيار سعر صرف الجنيه… هو اتساع الفجوة بين الواردات والصادرات”. ولو قرأ المعلِّق ما كتبناه في مقالنا تحت: ” المشكلة: عدم التوازن في الاقتصاد الكلي”، لوفَّر على نفسه وعلينا ضياع الوقت في المطالعة الإنشائية قليلة الفائدة، ولعلم أننا جذّرنا المشكلة بصورة وبأسلوب علميين بدلاً من تسطيح الأمور. فمثلاً، “الفجوة بين الواردات والصادرات ليست هي السبب في تدهور سعر الصرف، وإنما هي نتيجة للسبب الحقيقي وهو تراجع الإنتاج في القطاعات الحقيقية كالزراعة والصناعة كما وثّقنا في مقالنا. لكن من الواضح أن تجذير القضايا والحلول أكبر من مقدرات الرجل الضعيفة، لذلك التجريح والتشكيك في مصداقية الآخرين هو أنجح سلاح لتغطية العجز المعرفي. فبعد أن توصّل المعلّق إلى اكتشافاته المذهلة لأسباب انهيار سعر الصرف، قرَّر أن يصوِّب نيرانه نحو شخصنا الضعيف ليحقِّق هدفاً آخر يرفع به مقامه، فواصل القول: ” ولكن يُلاحظ أن الدكتور التجاني الطيب لم يتطرَّق على الإطلاق لعرض النقود… في مقاله، وربما يعود ذلك إلى اعتقاده أن عرض النقود يؤثّر على الطلب الكلي من خلال تحريك أسعار الفائدة وهو ما يُسمى بالمسار الكينزي… وطالما لا توجد أسعار فائدة في النظام المصرفي السوداني فإن زيادة عرض النقود لا تؤثر على الأسعار. وهذا تحليل غير سليم”. من الواضح أن للرجل مقدرة وخبرة عالية، تفوق مقدراته المعرفية بكثير، في تحريف أقوال الآخرين وتقويلهم ما لم ينطقوا به ليصل هو بذلك إلى استنتاجات وقناعات تتماشى مع اشتهائه.
أولاً: فكيف لي أن أعتقد وأنا لم ” أتطرّق على الإطلاق” لموضوع الكتلة النقدية، وكيف لي تحليل و”غير سليم” كمان وأنا لم أطرق باب الكتلة النقدية؟ لكن في نظر المعلّق ليس هذا بالشيء المهم طالما أن الرجل مطلع ويعرف كينز ومساره، لكن في الهرولة نحو تسديد الأهداف، نسي صاحبنا أن يقول للقارئ من هو كينز. ثانياً: حركة الكتلة النقدية تنعكس في حركة الأسعار أو معدل التضخّم وهذا هو المقياس الصحيح للطاقة الشرائية للعملة عند أهل العلم، وكما أقرّ المعلّق نفسه، وهذا ما أخذنا به. ثالثاً: لو قرأ المعلّق مقالنا: ” السودان وانفصال الجنوب: عدم التكيُّف الاقتصادي والتميُّز في الفشل”، الذي أوصينا بالاطلاع عليه في مقالنا، لعلم أننا وثَّقنا بأن أرقام التغيير الرسمية في حجم الكتلة النقدية يشوبها الكثير من الشك وعدم المصداقية، ما يقلِّل كثيراً من قيمتها التحليلية.
أخيراً، وبعد الدوران الطويل في حلقة مفرغة من المغالطات والتناقضات، نصل إلى الجزء الثاني والأخير من تعليق ضيفنا الكريم على مقترحنا بخصوص سعر الصرف. بدأ المعلّق مداخلته هنا باعتقاده: “أن أخطر ما جاء في مقال… هو مقترحاته الخاصة بسعر الصرف”. ولا أدري ما هو الخطر، ناهيك عن الأخطر، في اقتراح اقتصادي وليس إعلان حرب، يأخذ به من يُريد ويرفضه من لا يُريد حسب القناعة العلمية والعملية. وبدلاً من أن يوضح للقارئ مكمن الخطورة في الاقتراح، ذهب الرجل في اتجاه تمويه وتسطيح الموضوع. فواصل القول: “ويقول زميلي… وصديقي… أحد مساعدي بنك السودان (السابقين)… إن البنك قد جرّب النظام الذي يقترحه الدكتور… وأثبت فشله ويعود الفشل في اعتقادي إلى أن النظام لا يقوم على منطق اقتصادي سليم لأن الحكومة لا تمتلك ما تبيعه للتحكم في مستويات أسعار صرف العملات…”. ورغم التفاؤل بأن الرجل سيأتينا بنظام سعر صرف سليم المنطق الاقتصادي، إلا أن الفيل تمخض فولد فأراً. فها هو المعلق يقول في خواتيم حديثه: ” ولكن المطلوب اليوم هو توحيد سوق العملات بالتحرير الكامل لسعر الصرف…”.
وسنحصر ردّنا على ذلك في الآتي: (1) الواضح أن كل ما يفهمه الرجل تحت ” المنطق الاقتصادي السليم” هو أن الحكومة ليس لديها من الدولارات ما تبتاعه، لكنه لو قرأ مقالَنا بعقل وقلب مفتوحيْن، لعلم أن النظام المقترح بُني على أساس أن الحكومة لا تمتلك من الدولار ما يكفي للتدخل، وليس “التحكُّم” في أسعار الصرف، وبالتالي عليها أن تدخل السوق كمنافس للسوق الموازي بهدف بناء احتياطي نقد أجنبي مقدر بصورة مستدامة تمكنها من سحب الطلب على العملات الحرة تدريجياً من السوق الموازي، ما سيؤدي إلى نوع من الاستقرار في أسعار الصرف مبدئياً. (2) المعلِّق يناقض نفسه بنفسه، فقد قال في بدايات تعليقه أنه لاحظ أني “تحكّمي المزاج” منذ كنت وزيراً، وها هو يقول إن زميلاً وصديقاً له عمل في بنك السودان أخبره أن البنك جرّب النظام الذي نقترحه وفشل! فكيف لمن كان يلاحظني عندما كنت وزيراً، ولا يعلم أن سياسة السعريْن للجنيه نفذها بنك السودان في عهدي كوزير، وقد كنتُ مهندسها “وحاميها ودليلها”؟ (3): لعلم من لا يعلم، لوائح وقوانين صندوق النقد الدولي لا تسمح بتعددية أسعار الصرف في الدول الأعضاء، لذا كان لزاماً علينا وقتها أن نأخذ موافقة الصندوق، والتي تحصَّلنا عليها بعد اقتناعه بسلامة حزمة السياسات المالية والاقتصادية، بما فيها سعر الصرف، التي كنا ننوي تنفيذها. (4) ولنخيّب أمل المعلّق، فتطبيق سياسة السعريْن، التي بدأنا بها – كان ناجحاً ومبشراً حيث ارتفعت حصيلة البنوك من شراء الدولار من 50 ألف دولار إلى ثلاثة ملايين دولار في اليوم. (5) للأسف، باقي السياسات المكمِّلة لسياسة سعر الصرف لم تُنفّذ لعدم توفّر المناخ والدعم السياسي اللازميْن، ما دفع بي من ناحية أخلاقية ومهنية للاستقالة من الوزارة بعد سبعة أشهر من تولي المنصب. (6) توحيد سعر الصرف وتعويمه طالب به البنك الدولي في دراسة حديثة عن السودان، وظل صندوق النقد الدولي يُطالب به بصورة مستدامة. لكن المؤسستين ليستا من السذاجة للمطالبة بتحرير سعر الصرف بمعزل عن سياسات وإجراءات مالية واقتصادية مصاحبة. لكن لكل من المؤسستيْن رؤيته لنوعية وشكلية وحجم السياسات المطلوبة. لهذا كنا نأمل أن يقدم لنا المعلّق مقترحاً عملياً محدداً ومفصلاً وفق رؤيته كما فعلنا وغيرنا. وهنا تذكرت قول أبي العتاهية:
وبعض الأنام كبعض الشجر جميل القوام شحيح الثمر
وبعض الوعود كبعض الغيوم قوي الرعود شحيح المطر
في الختام، بتقرير كل الحقائق التي سقناها أعلاه، نسقط كل معالم الاستنتاج المتسرّع الخاطئ الذي انتهى إليه التعليق على مقالنا. فكما أوضحنا بإسهاب، فالواضح أن الأمر يتعلّق بمغالطات وتناقضات، وليس بوجهة نظر مغايرة لما طرحنا من موضوع مقترح محدد ومفصل ومكتمل الجوانب والزوايا. ولو صحَّ أن مستوى علم الاقتصاد في بلادنا قد هبط في هذا الزمن الرديء، فعسى أن تكون ضحالة وجهالة مثل هذه التعليقات من أسباب هذا الهبوط. والمؤسف أن الناشرين يفرضون على القارئ قراءة تلك التعليقات والمواد ذات الطابع العلمي والمعرفي دون إعلامه عن الخلفية العلمية والمهنية لكُتاب هذه المواد، وهذا ما نأمل أن يُصحَّح في المستقبل.
الصيحة