ذكرى الميلاد ليست واجباً دينياً بل من المباحات. بعض الناس يسخرون منها والعبرة بمقاصدها فإن كانت مناسبة للزهو الاجتماعي فهي بغيضة. ولكن إذا أقامها محبوك تقديراً لعطائك، وإذا صارت مناسبة لوقفة مع الذات للمحاسبة على السلبيات ومواصلة الايجابيات تصير من أوجب الواجبات.
بمناسبة ذكرى اليوم أخاطبكم في ثمانية محاور:
المحور الشخصي:
في هذا العام اشتد بنا الضيق المالي. ليس في مجال المصاريف الخاصة فإني ولله الحمد زاهدٌ في الصرف على نفسي، ولكن على صعيد تمويل الالتزامات الأوسع. ومهما حاولنا من مشروعات بيع أصول واستثمار أصول أعاقتنا الحالة الاقتصادية العامة في البلاد فالمشترون ينظرون للحالة فيعتذرون ويجدون البلاد مكبلة بالديون ومحاصرة اقتصادياً فيحجمون، والمستثمرون بعد أن يعبروا عن استعدادهم كذلك يحجمون. والحالة طاردة فشبابنا يبحثون عن النزوح واللجوء والاغتراب آلافاً مؤلفة وتختل الخريطة السكانية سكان الأرياف إلى المدن حتى ريفوها. والآخرون إلى أركان العالم الأربعة حتى صنعوا سودان المهجر بربع السكان وبأرصدة سودانية لا تقل عن 60 مليار دولار.
هذه الظاهرة وجه من وجوه العصيان المدني لأنها مرتبطة بالعهد الحالي.
أنا أبذل من الأصول الثابتة للعمل العام جزءاً كبيراً ما جعلني أقرر أن أوقف للعمل العام وما أوزع على أولادي هبة بصورة تكفل لهم معيشة متوسطة فأنا لا أرجو أن يكونوا أغنياء ولا فقراء: “حُبُّ التَّنَاهِي غَلَطْ خَيْرُ الأُمُورِ الْوَسَطْ”. كنت أحرص على مجالس دورية مع أولادي ثم حفدتي وفي زيارات هذا العام اتضح لي أن عدداً منهم قد نضجوا ما يوجب أن أنظم معهم معسكرات راتبة.
وفي هذا العام واصلت رياضة التنس وأوقفت رياضة البولو. البولو ليست مجرد رياضة بل هي أيضاً حصة في عشق الخيل. والتنس كذلك رياضة ووصال اجتماعي. الرياضة لغير الغافلين ليست لعباً كما أوضحت في كتابي بهذا العنوان، ويزعجني جداً ما ظهر من إحصاءات في السودان لعام 2015م جاء فيها: أن 86.8% لا يمارسون رياضة. وأن زيادة الوزن في السيدات 62%، وفي الرجال 41.2%، وأن النتيجة: ارتفاع نسبة الإصابة بضغط الدم إلى 29% وبالسكري إلى 19% والأزمة 9%. حالة مؤسفة أحاول ما استطعت التنبيه للتخلص منها.
وفي هذا العام ظهرت لي علة صحية اضطراب في الغدة اللعابية، ونصح الطبيب بجراحة، ولكن بعد ذلك اختفت بصورة لا تفسير لها إلا بالبركة ولله الحمد. بعض الناس لا يقبلون الغيبيات ولكن إذا كان في الإنسان قبس روحي فهو أهل لمعارف غيبية بالاستشعار غير الحسي، وبالرؤيا الصادقة، وقد رأيت منها عشرات ذكرتها لمن حولي.
الإنسان جزء من الطبيعة الحيوانية من باب (أُمَمٌ أَمْثَالُكُم). ولكنه مفارق لها في ثلاث أشياء هي: العقل، وحرية الاختيار، والروحانية. هذه الأشياء ينكرها نوعان من الناس: الماديون الذين يعتبرون الإنسان جزءاً لا يتجزأ من الطبيعة الحيوانية. والظاهريون الذين يعتبرون الإنسان متلقياً للمنقول. كلاهما يصغـّر الإنسان الذي كرمه ربه ونفخ فيه من روحه واستخلفه في الأرض.
الحرية أصل في الدين: (وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ). والعقلانية أصل في الدين: (فَقُلْنَا هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ). والروحانية أصل في الدين: (اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ)3. العقلانية الحقة، والروحانية الحقة لا يتناقضان: اجتمع العقلاني ابن سينا مع أبي سعيد بن أبي الخير الصوفي وتذاكرا ثلاثة أيام، بعدها سأل تلاميذه ابن سينا عن النتيجة، قال: ما أراه يعرفه، وسأل أبا سعيد تلاميذُه فقال: ما يعرفه أراه!
وفي هذا العام كثرت الإشارة لتقدمي في السن ومن باب الحسد يلحقونني بأندادي ولا ينسون ذكر بيت عوف بن ملحم:
إنَّ الثَّمانينَ وبُلِّغْتَها قد أحْوَجَتْ سَمعي إلى تَرْجُمانْ
نعم هنالك من يستنزفون عمرهم بأسلوب حياة مستهتر، أو من يصابون بأمراض مزمنة، ولكن من نعم الله أن غيرهم يصدون زحف الشيخوخة ما يتطلب روشتة من خمس معنويات: الإيمان، والمحبة لمن حولك، وألا تغضب، ولا تحقد، ولا تحسد. وستة حسيات: لا للخمر، ولا للدخان، ولا لزيادة الوزن، وممارسة الرياضة، والنوم ست ساعات في الليل، وتناول الإفطار بانتظام.
قلت وأقول للكافة عبارة عجوز ليست صفة لسن بل هي صفة لحالة:
إنَّمَا الشَّيْخُ مَنْ يَدِبُّ دَبِيبَا
وقد قال حكيم:
إِذَا طَالَ عُمْرُ المَرْءِ فِي غَيْرِ آفَةٍ أَفَادَتْ لَهُ الأَيَّامُ فِي كَرِّهَا عَقْلاَ
هذا العام كان من أخصب عطاءاتي فكرياً وثقافياً كتبت كتباً ومقالات ومقدمات لكتب آخرين، ما يجعلني من الشاكرين. هذا الاجتهاد يدعمه أحباب فدائيون في مكتبي أذكر منهم محمد زكي وإنعام الجمري وأحمد يوسف (قربين)، أما الحبيبة رباح فقد صارت مساعد ملاح ساعدتني أن تصبح مناسبات ذكرى الميلاد معرضاً للمؤلفات: مؤلفاتي ومؤلفاتها عن سيرتي، بصورة غير مسبوقة في كل التراث، ليس لها مثيل. وأحمد لمدير مكتبي إبراهيم الوفاء والكفاءة الإدارية.
منذ مدة حرصت على تطويرين: تطوير الزي البلدي في اتجاه يجعله أكثر تنوعاً، وأكثر عصرية. وتطوير الزي الإفرنجي في اتجاه يمحو عنه المحاكاة لأهله.
وسأواصل. وفي هذا الصدد يزعجني جداً الاستلاب الذي لحق بمراسم الزواج عندنا، وأسوأ ما فيها بدلة السهرة وفستان الزفاف للعروسين. فاللون الأبيض عندنا للعبادة وللحزن لا للأفراح.
ومن المساويء التي تكاد تبطل الزواج المبالغة، وينبغي أن يعتبر المسرفون في نفقات الزواج جناة تخريب اجتماعي، والحد منها، لقد جأرت بناتنا من الشكوى إذ قلن:
نحن البايرات يا جماعة
ولي الله يدينا بنرفع
شعارنا عريس متواضع
يا حي يا واهب أسمع
ما همنا حفلة وشيلة
بي حاجة قليلة بنقنع
الحالة مأزومة بل أفرزت انهياراً أخلاقياً غير مسبوق، أبلغ دليل على فشل المشروع المسمى حضاري.. قال شاب مستهتر لآخرين: اللبن مشتت في الشوارع فلماذا أربط لي بقرة في البيت؟
أنا أحمد الله أنني أحب كثيرين، ويحبني كثيرون محبة تستفز آخرين فيهاجمونني دون سبب، عندما يسمعون أبيات من شعراء غير أنصار ولا حزب أمة مثلاً:
ونسكب فيك المحبة لهفاً سيدي فالمحبة دين
يسموك أهليَ سيدهم اسميك وحدك بالسيدين
رغم هذه المحبة والسند الشعبي الواسع فإنني افتقد الصداقة التي عهدتها مع سارا التي كانت زوج وصديقة وزميلة، وعمر نور الدائم وصلاح عبد السلام. وعمر إليَّ كان أكثر من أخي بل حبيبي:
وقلتُ أخي، قالوا أخٌ ذو قرابةٍ فقلتُ إنَّ الشُّكول أقارِبُ
على الصعيد العائلي:
ما برحت أشكر الله على نعمة أولادي. عبارة أولاد طبعاً تشمل الابن والبنت. أكثر العاملين في الحياة العامة أولادهم غالباً ما يقعون في عيبين: إما أن يتخذوا اتجاهات ضدهم فكرياً، كالسني الذي يتخذ أولاده نهجاً يسارياً، أو اليساري الذي يتخذ أولاده نهجاً سنياً. والعيب الآخر أن ينأوا بأنفسهم تماماً عن الحياة العامة أو يتحنكشوا.
ولكن أولادي دون إكراه صاروا عوناً قوياً لمشروعاتي الفكرية والسياسيةـ وحتى الذين لم يشتركوا في برنامجي صاروا خير سفراء لنا في مجالاتهم المهنية كرندة وزينب وطاهرة. وأكرر التهنئة لرندة على الدكتوراة في كيمياء العقاقير، ولزينب على رئاسة قسم تنسيق البيئة في كلية الهندسة المعمارية بجامعة الرباط الوطني، وطاهرة على ترقيتها نائبة عميد، وأختهم الأكبر أم سلمة تبث أمومة على أوسع نطاق، وصارت خير مساعد أم للحبيبة حفية الوفية التي فتحت منزلي في غيابي.
الصديق ومحمد أحمد يقومان بإدارة الصديقية، مؤسسة معيشتنا ويقدمان مجهوداً كبيراً في العمل العام، الصديق في المجال السياسي والاجتماعي، ومحمد أحمد في المجال الأنصاري والاجتماعي.
دعيت مريم لمؤتمر منظمة التحرير الفلسطينية، ومع أنها ذهبت ممثلة لمؤسسة رئاسة حزب الأمة القومي لا الصفة العائلية ومثلت الشعب السوداني خير تمثيل وقدمت الدعم المعنوي لقومنا المحاصرين، وقدمت نصحاً لتوحيد الصف التحريري الفلسطيني، وحدة مهمة لأن القضية سوف تتقدم بالقوة الناعمة، فنرجو أن تعمل المحكمة الجنائية الدولية لمساءلة إسرائيل كما نهنيء أهلنا في فلسطين على إجازة قرار مجلس الأمن بإدانة المستوطنات الإسرائيلية غير القانونية في الأراضي الفلسطينية؛ ولكن الحشويين لم يعجبهم ذلك كأن في زيارة المسجون تأييداً للسجين.
ومن نعم الله أن أولادي، مع اختلاف المواقع تربطهم إستراتيجية دينية ووطنية واحدة، وتربطهم هم ومن دخل علينا من الأزواج محبة ومودة تعلو على علاقة الرحم. من صاهرنا ستة حبايب وحبيبتان كانوا قيمة إضافية حقيقية.
مسألة ابني عبد الرحمن يستشهد بها كثيرون للطعن في مصداقية موقفنا الرافض للنظام. عبد الرحمن عضو في نظام نرفضه، وهو في النظام وليس منه، ولكنه باجتهاد خاص به يعتقد أن الإصلاح الذي ننشده يتم بالمباصرة لا المعارضة.
ولكن الذي يضع سقفاً على حدود المباصرة، أن النظام خائف من المساءلة الجنائية كما في قرار مجلس الأمن، والمساءلة المدنية كما في مقولة الزبير رحمه الله: “نحن من أسر فقيرة فإن امتلكنا الأبراج والسيارات فهذا دليل الفساد”. لم أتعامل مع أولادي بالإكراه وأدعو الله أن يتبين ابني عبد الرحمن أن للمباصرة حدوداً تحول دون ما يريد.. وعلى أية حال الأمور بخواتيمها.
ومن دواعي شكري لله أن العاملين معنا مباشرة يصيرون جزءاً من أسرتنا، ويبدون تفانياً وتضحية ومحبة: مريم محمد بشارة، وعزيزة رحمها الله، ونجاة التي بدأت حياتها معنا مع المهاجرين في أثيوبيا، وصارت مديرة منزلنا في القاهرة، وفي حضوري أو غيابي عاملت أسرتي كأقربائها وعاملت ضيوفنا بالترحاب والإكرام.
ولكن في مجال أسرتنا الكبيرة هنالك تفكك فيها.. هذه الأسرة كانت منقسمة في عهد المهدية، وكذلك في عهد الإمام عبد الرحمن، ولكن الأسرة التفت حوله فيما بعد.. ولكن الأسرة الكبيرة زاد تفككها بصورة كبيرة في عهد الطغيان لأن الطغاة بذلوا جهداً كبيراً لاختراقها خصوصاً لأنني جهرت بالعداء لعهودهم الثلاثة. ورغم التفكك فإن ما بين أفرادها من المحنّة والمجاملة يفوق ما بين كثير من أفراد الأسر الكبيرة.
إن اختلافات أفراد الأسر ذات الحسب من سنن الاجتماع، فواقعة الجمل كانت بين أفراد من آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم. وفي وجه العهد الأموي اختلف موقف ريحانتي النبي فالحسن
تراضى مع النظام ولكن الحسين قاومه حتى قتل شهيداً ومثلوا به:
أَسِفُوا عَلَى أَنْ لَا يَكُونُوا شَارَكُوا في قـَتْلِهِ فـَتـَتَبـَّعُوهُ رَمـِيمـَا
وفي هذا الصدد كنت ألح على الأخ حسن الترابي رحمه الله بعد أن تبينت له الحقائق أن يتخذ خطوة صريحة لكي يجرى معنا مصالحة تاريخية بأن يعلن خطأ انقلاب 30 يونيو، وفشل النظام الذي حقق عكس مقاصده، ولكن مع عدم رفضه لهذه الحقائق لم يفعل.. لعل خلفاءه يفعلون لأن ربط أية دعوة رسالية بالانقلاب العسكري وربط شعار الإسلام بالاستبداد يتطلبان التبرئة.
وفي المجال العائلي رحل عن دنيانا الحبيب إسماعيل عبد الله الذي كان لي صديقاً وزميلاً، وكان من الشخصيات الوفية للقضية الوفاقية في المعاملات وإن حجّم قدراته في هذا الصدد نرجسيون. رحمه الله رحمة واسعة “إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى”.
ولم ينته العام إلا بعد أن رحلت حبيبتي مقبولة. مقبولة من القلائل الذين أجروا دموعي فقد كانت تجسيداً للوفاء، والولاء، والمروءة. صفات لن تدخل معها إلى القبر بل سوف تبقى خالدة:
قد ماتَ قـومٌ ومَا مَاتَتْ مكارِمُهم وعَاشَ قومٌ وهُم فِي النَّاسِ أمْواتُ
سوف نقيم لها تمثالاً معنوياً خالداً.
لعل مما يمسح دموع هذا العام أن حبيبي بشرى قد اختار شريكة حياته حنين. بشرى عنقود محامد، وحينما سمع أن هناك خطراً على سلامتي خلع الكاب وقرر البقاء إلى جنبي الرجل بالرجل.. أرجو أن يجد حنين توأماً يجسد معنى قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا).. طاهرة وبشرى وهما أصغر بناتي وأصغر أبنائي يتصرفان بذكاء اجتماعي أكبر من سنهما.
على صعيد الكيان
لقد قام نوابي في رئاسة الحزب: الأحباب فضل الله، وصديق، والدومة خير قيام بالإنابة عني. وكذلك الأمينة العامة الحبيبة سارة نقد الله التي تبذل مجهوداً كبيراً فأعطت الأمانة العامة داينامية وقدرة على الابتكار أسأل الله لها دوام التوفيق.
وأذكر بالخير نشاط المكتب السياسي وأوصي رئيسه الحبيب محمد المهدي حسن للعمل على الوفاق والتراضي بين أعضائه.
أما الأمانة العامة لهيئة شؤون الأنصار بقيادة ابني الأمير عبد المحمود أبو، ونائبه الحبيب آدم أحمد يوسف وزملاؤهما في اللجنة التنفيذية، فقد قاموا بعمل كبير في المجال الدعوي والإرشادي والديني التقدمي إحياء للخلاوى والمساجد، ونشراً للخطاب التأصيلي المستنير، جزاهم الله خيراً وجزا خيراً مجلس الحل والعقد بالهيئة، وهيئة الملازمية على قيامهما بأنشطتهما المعهودة.
وأشيد بتوسع نظمنا في العالم، إذ صار لكياننا السياسي والديني 73 فرعاً أرجو أن يتجاوزوا بالوفاق الأخير مشاكلهم التنظيمية للاشتراك معاً في اللجنة العليا للمؤتمر العام الثامن، وسوف اقترح أن تزيد صلاحيات دائرتهم، وأن تحظى بمزيد من اللا مركزية تمشياً مع واقعها.
ولا أنسى الإشادة بصالون الإبداع راجياً أن يسجل في شكل قانوني ليستحق دعماً من الجهات المعنية بالتنمية البشرية كما يمكن له أن يمول نفسه بوسائل تجارية.
على الصعيد الوطني
كان هذا العام كثير المبادرات، فالغرس الذي زرعناه عام 2014م جعل قوى المقاومة الثورية المسلحة تلتزم بسودان واحد عادل بالوسائل المدنية سبيلاً إليه، وكان إنجازاً وطنياً مهماً، ولو تصرف النظام بعقل ووطنية لأشاد بهذا الإنجاز، ولكن غفلة وحسداً شوهوه.
إن التزام الفصائل السودانية المسلحة بهذين المبدأين يحمد لهم، ويحمد لهم أنهم عزفوا عن أساليب الإرهاب الرائجة في المنطقة، كما يحمد لأبنائنا وبناتنا جماعة 27 نوفمبر التعبير عن رفض النظام بأسلوب حضاري سلمي، وبدل تقدير النظام لذلك ومناشدتهم أن يتم هذا التعبير بالوسائل السلمية، فإن النظام يباهي بقوته ويدعوهم لمنازلة تمكنه من تكرار سبتمبر 2013م.
إن أغلبية أهل السودان الساحقة يرفضون الإجراءات المالية التي قررتها الحكومة السودانية في 3/11، وأغلبية الشعب السوداني ترفض النظام الحاكم وتعتبره المسؤول عن انفصال الجنوب، وإشعال الحروب، وتدمير الاقتصاد، ونشر الفساد وممارسة أقسى أنواع الظلم.
واختيار هؤلاء الشباب التعبير السلمي بالعصيان المدني عن رفض إجراءات النظام كما في 27/11، وعن رفض النظام نفسه في 19/12 اختياران صائبان ولكن:
كان اختيار يومين قبل نهاية الشهر اختيار خاطئ.
وكان تحديد ثلاثة أيام كذلك فالمطلوب في الأصل هو تعبير عن الرفض.
ومع ذلك حقق العصيان المدني الأول كثيراً من أهدافه. أما بالنسبة لعصيان 19/12 فقد اختفى عنصر المفاجأة مما جعل النظام يستعد لمقاومته بإجراءات أهمها:
إجراءات عقابية لمن يدخل في العصيان.
إغراءات توظيف 25 ألف من العاطلين.
تنظيم احتفال لم يحتفل به في الماضي بيوم إعلان الاستقلال من داخل البرلمان لملء الشوارع بالحركة.
استئجار سيارات من شركات الليموزين للحركة في الشوارع.
وأما رفع السقف من إسقاط الإجراءات المالية إلى إسقاط النظام.. هذا التصعيد اتخذ دون مراعاة استحقاقاته. فمع أن الجهات المبادرة بالعصيان والجهات المؤيدة له معروفة وقد أصدرت بيانات واضحة. ولكن هذه القوى لم تكمل هيكلة فصائلها تنظيمياً ولم تعلن ميثاقها لبناء المستقبل ما بث خوفاً من أن يكون البديل للنظام المرفوض مضطرباً على نحو ما كان في تجارب الربيع العربي.
وبالرغم من ذلك فقد تحققت استجابة في ضواحي العاصمة وبعض المدن، مما يؤكد تضعضع شعبية النظام والاستعداد الشعبي لمنازلته.
كذلك حولت المبادرة الأجندة السياسية من مخرجات حوار قاعة الصداقة إلى إسقاط النظام.
وأدت المبادرة إلى ميلاد تنظيم سياسي جديد معارض، كما أثبتت المبادرة جدوى وسائط التواصل الاجتماعي.
القوى السياسية المدنية أيدت المبادرة ولكنها لم تشترك في قيادتها ولا في التخطيط لها.
أهم درس مستفاد من التعامل مع النظام هو أن تجتمع كل القوى الرافضة للنظام في هيكل واحد يعلن ميثاقاً لبناء الوطن والسياسيات المتفق عليها كبرنامج لهذا البناء. هذا ما سوف نعمل باجتهاد لتحقيقه إن شاء الله.
كنت ولا زلت وسوف أظل أحرص على تحقيق مطالب الشعب المشروعة في سلام عادل وشامل وتحول ديمقراطي بأقل خسائر في الدماء. ولكن نظام الخرطوم لحرصه على تجنب المساءلة الجنائية والمدنية كان ولا زال وسوف يظل يستميت لحماية سلطانه بسفك الدماء ولكن هذا لا يجديهم لأنه كما قال الحكيم:
رأيت السيف قد ملك الشعوبا ولم أر أنه ملك القلوبا
وأي حكومة بالسيف تقضي فإن وراءها يوماً عصيبا.
ومهما كانت حماقة النظام فإننا منذ البداية حتى الآن رفعنا راية رفضه، وتحملنا تبعات ذلك، وسوف نواصل هذه الرسالة حتى نسترد للشعب حقوقه في السلام العادل الشامل والتحول الديمقراطي الكامل.
العصيان المدني من حلقات الرفض للنظام، وأفلح في إنتاج قوى مدنية وسياسية جديدة، وأتاح فرصة لاصطفاف قوى البلاد التليدة والجديدة، وسوف نوحد كافة هذه القوى في هيكل تنظمي واحد وبموجب ميثاق وطني واحد. وسوف يعقب العصيان المدني حلقات من جنسه حتى يسترد الشعب حقوقه المسلوبة.
قلبي مع كافة المحبوسين لأسباب سياسية في بلادنا، وأطالب بإطلاق سراحهم لا سيما سجناء العصيان المدني وهم الأحباب الزبير محمد علي وأيمن حمد وآخرين، والزملاء عمر الدقير وإبراهيم الشيخ وخالد عمر وآخرين من المؤتمر السوداني ومن قوى الإجماع، وسائر المحبوسين، فما قاموا به واجب وطني وليس جريمة في منظومة حقوق الإنسان.
في هذا العام قمت بعدد كبير من الرحلات في المهام الوطنية بلغ عددها 12 رحلة دولية من أهم انجازاتها:
توحيد كلمة نداء السودان للتوقيع على خريطة الطريق بعد معالجة التحفظات بعد رحلة جوهانسبيرج.
إجلاء ما نطلبه من الآلية الأفريقية الرفيعة في إطار استحقاقات الحوار الوطني.
التواصل مع ممثلي الأسرة الدولية أن يجعلوا التعامل الإيجابي مع النظام السوداني مربوطاً بالتقدم نحو السلام والتحول الديمقراطي، وأن يعدوا بأنه في حالة تحقق ذلك يحظى السودان بدعم منهم بمنافع محددة هي: إعفاء الدين الخارجي، ورفع العقوبات الاقتصادية، ورفع اسم السودان من قائمة رعاية الإرهاب، ومعادلة للتوفيق بين المساءلة الجنائية والاستقرار.
تقديم مشروع للسيد ثامبو امبيكي لمعالجة مسألة وقف العدائيات وانسياب الإغاثات الإنسانية لانطلاق الحوار الوطني.
تقديم تحليل موضوعي لنتائج حوار قاعة الصداقة بما يحدد ما فيها من ايجابيات وسلبيات مع تأكيد أنه ملزم لمن شاركوا فيه لا سواهم.
وفي غضون هذا العام وعبر مؤتمرات منتدى الوسطية العالمي قدمنا مشروعاً لإيجاد مخرج توفيقي لمحنة الأمة الإسلامية عبر نداء محدد يرجى أن يسعى به نحو أرض الواقع مجلس حكماء.
انشغلت الأمة لا سيما العربية بحروب طائفية وملية وإثنية حتى صارالعرب يقتلون العرب تحت شعارات مختلفة، فالقتال في سوريا، وفي العراق، وفي اليمن، وفي ليبيا قتال يتمدد في ميادينه النفوذ الأجنبي وتجار السلاح، وتتمدد كذلك القاعدة والخلافة المزعومة ولا مجال لأية نتيجة إيجابية. والمشهد المؤسف يكثر الضحايا ولا يجد النازحون لا سيما السوريون من دول المنطقة بعثات طبية ولا استقبال لاجئين، بل يقدم ذلك دول يصفها البعض بأنها دار حرب، صاروا هم دار سلام، وديارنا هي دار الحرب.. ينبغي وقف هذه الحروب ذات النتائج السلبية والاهتمام بإرسال بعثات إغاثة طبية وغذائية وفتح المجال للاجئين من جحيم الحرب في سوريا واليمن وليبيا وإلا فما معنى الإخاء وما معنى الجوار؟
وفي نطاق نادي مدريد العالمي وعبر لقاءات أمكننا جمع الكلمة حول أمرين هما:
أن التطرف والإرهاب الذي تباشره القاعدة وداعش له حواضن محلية ولكن للهيمنة الدولية نصيب كبير في إنتاجه.
أن التركيز على حلول أمنية وعسكرية في قضية فكرية وسياسية ليس مجدياً ما يتطلب تحديد الأسباب والتصدي لها.
ومن الآراء التي بادرنا بها في أمر دولة جنوب السودان الشقيقة أن حل الأزمة ذاتياً مستحيل لتحكم الاستقطاب القبلي والعداوات الشخصية، ما يوجب دوراً إشرافياً للأمم المتحدة ترتضيه أطراف النزاع، ويقرره مجلس الأمن، وتلتزم بدعمه الدول المجاورة لدولة الجنوب.
وعلى الصعيد العربي بعد تحليل أسباب التأزم والاستقطابات الحادة وظهور هشاشة نظام الدولة الوطنية أوضحنا أن هذا البؤس يمكن أن يوظفه الأعداء الاستراتيجيين لتفكيك المنطقة، ولكن ينبغي أن يكون حافزاً للقوى الفكرية والسياسية الحية لجعل الحالة مخاضاً لصبح جديد.
محطات العبور نحو صبح جديد
في الأطر الخاصة بنا الأنصارية، والحزبية. وفي الأطر العامة الوطنية، والعربية، والأفريقية، والدولية، هنالك عوامل تتطلب إستراتيجية جديدة:
في الإطار الأنصاري فإن الدعوة المهدية أسست لفكرة وقيادة حققت نجاحاً في زمانها.
وبعد الإطاحة بالدولة المهدية هندس الإمام عبد الرحمن للدعوة بعثاً بأسلوب جديد.
والمطلوب الآن على ضوء اجتهادات وواقع جديد العبور نحو مرحلة ثالثة أهم معالمها:
بيان لمفهوم الإمامة يجلي معناها في دعوتنا.
إجلاء أمر المهدية بعيداً عن الشخصنة والأزمنة وتعريفها بوظيفة إحياء الدين الملزمة بنص الكتاب: (فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاء فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ) وقوله: (وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ).
بيان دستور للإمامة مؤسس على وصية الإمام الصديق وهو تأسيسها على مشاركة الأنصار الانتخابية.
تركيز تأسيس هيئة شؤون الأنصار على أنها جماعة دعوية عاملة من خلال مؤسسة مكونة بالمشاركة التزاماً بالشورى.
وفي مجال حزب الأمة فإنه ولد منذ سبعين عاماً في 1945م.
وشهد مولداً ثانياً في 1964م
وشهد مولداً ثالثاً في 1985م.
ومنذ عام قدمت اقتراحاً لمولد رابع أن يكون بتسمية جديدة، ورئاسة جديدة، ومؤسسات جديدة تراعي كافة المستجدات، وسوف تدرس هذه المقترحات ورشة لتصدر توصيات يقرر في أمرها المؤتمر العام الثامن.
أما على الصعيد الوطني فإن النظام الحالي قد صار فارغاً من أي مضمون فكري وتآكل المشروع الحضاري ولم يعد سوى ضبطية أمنية تحكم بالقهر وتمول إداراتها بالجباية.
النظام نفسه الآن يعاني من انفصامات كبيرة، وقد اصطفت ضده القوى السياسية والمدنية التليدة والجديدة.
نحن بصدد تكوين جبهوي عريض يقوده هيكل جامع وينادي بميثاق لبناء الوطن. مهمة هذا التكوين هي استخدام القوى الناعمة للتعبئة وتقوية الأمل في العبور لكيلا تؤدي حماقات النظام لاختيار بعض المعارضين لأساليب الإرهاب الرائجة في المنطقة. ما برح النظام يقول إنه لا يفاوض إلا القوى المسلحة حتى تكاثرت في الساحة السودانية الحركات المسلحة، والآن درج النظام على التباهي بقدراته على القتل، ويدعو للمبارزة ما قد يدفع نحو الأساليب الإرهابية. هذا بينما القيادة الرشيدة هي من تحرص على مفاوضة القوى المدنية، بل وتقدر لمعارضيها اختيار الأساليب السلمية وتعلن احترامها لذلك.
إن وضوح رؤية المستقبل المنشود. وبيان اتساع التأييد الشعبي سوف يؤديان بصورة ما لسيناريو 1964م، أو لسيناريو 1985م.
إن علاقة بلادنا بعالميها العربي والأفريقي تعاني من اضطراب وعدم توازن وسوف نقدم في الميثاق الوطني بياناً لمحتوى العلاقة في المجالين وللتوفيق بينهما وبين مطالب الدولة الوطنية.
هنالك حاجة ماسة للعبور في المجال الإسلامي، فالإسلام يمثل قوة ثقافية هائلة في عالم اليوم كما أن له تأييداً كبيراً في الميزان الاجتماعي في بلاد المسلمين. نعم إن للإسلام عناية إلهية، ونعم إن التمسك بالإسلام سائد في أوساط المسلمين.
هذه الحقائق أفرزت حركات ترفع الشعار الإسلامي بصورة ماضوية ونقلية، وهنالك من أدخلوا صوراً تجديدية أخفقت لدى التجربة العملية، وهنالك من صوروا الدعوة للإسلام برؤية الخوارج.
المسألة الإسلامية تتطلب عبوراً واضح المعالم مفرداته:
الخلافة والإمامة التاريخية مؤسستان لرئاسة الدولة مرتبطتان بظروفهما الاجتهادية والتاريخية لا توجد نصوص وحي قطعية بأمرهما بل كان واضحاً أن الأمر بشري على نحو ما أوضح أبو بكر رضي الله عنه في خطبته بعد بيعة السقيفة التي لم تكن نتيجة نص نقلي بل كانت كما قال عمر رضي الله عنه فلتة. ما قاله أبو بكر (رض) أسس الإمارة على المشاركة، والمساءلة، والشفافية وسيادة حكم القانون. ولاية الأمر في زماننا ينبغي أن تأخذ في الحسبان مقولة ابن القيم في أعلام الموقعين: “تغير الفتوى بتغير الزمان والمكان والحال”، وقال ابن عابدين: “كثير من الأحكام يختلف باختلاف الزمان بحيث لو بقى الحكم على ما كان عليه لزم منه المشقة والضرر بالناس”.
ما يعني أخذ حقيقة الدولة الوطنية في الحسبان، وإيجاد آلية بالتراضي لتنظيم العلاقات المطلوبة بين دول المسلمين.
وفيما يتعلق بهدف تطبيق الشريعة فقد صار الشعار سبباً في اختلافات واسعة بين الحركات الإسلامية وبينهم وبين مخالفيهم في الملة وفي الفكر.
تطبيق الشريعة ينبغي ألا يعني الاحتكام لنصوص تقليدية صار بين استنباطاتها والواقع ما يزيد على ألف عام.
المطلوب في هذا الصدد هندسة اجتهادية جديدة تراعي الواقع، والإمكان، والأولويات، وحقوق الآخرين الدينية والمدنية، واستصحاب اجتهادات ونظم وضعية نافعة.
لا يجوز لأحد أن يتحدث باسم الله أو باسم الإسلام على نحو مقولة معاوية في العهد الأموي ومقولة أبي جعفر المنصور في العهد العباسي إذ قال معاوية: نحن الزمان من رفعناه ارتفع ومن وضعناه أتضع.
وقال أبو جعفر: “أنا سلطان الله في أرضه أسوسكم بتوفيقه وتسويده وتأييده. وحارسه على ماله أعمل فيكم بمشيئته وإرادته وأعطيه بإذنه”.
هذا كله لا يجوز فولايتهم بشرية وما يفعلون اجتهاد منهم لا يجوز نسبته لله.
هذا الموقف يرد على الذين يسقطون العقل، والتجربة الإنسانية، ويلتزمون بالنقل وحده مجافاة للتدبر ولمقولة الجوزي في التقليد إبطال لمنفعة العقل لأنه إنما خلق للتدبر “وقبيح بمن أعطى شمعة يستضئ بها أن يطفئها ويمشي في الظلام”. ومقولة المراغي: “قدموا لي أي شيء ينفع الناس وأنا أنبئكم بسنده من الشريعة الإسلامية”.
وهنالك موقف التفريط. وأصحابه الذين يقولون ما معناه ليس على العقل سلطان إلا العقل. هؤلاء يفوت عليهم أن وراء العقل مكارم أخلاق ملزمة للعقل وأن هناك معارف روحية وإلهامية وراء العقل. يفوت على هؤلاء أن الدين مندمج في الحياة العامة حتى في البلدان التي تعلن العلمانية. أعلنت منظمة “بيو” لقياس الرأي أن 49% من الأمريكان يؤيدون دوراً للكنيسة في الحياة السياسية. صحيح الدين من فرط تمسك الناس به يمكن أن يستغل للضرر ولكن هذا يعيب أصحابه ولا يعيب الدين.
نعاني الآن من تطرف وعنف باسم الدين ومع أن هؤلاء يسوقون نصوصاً دينية تبريراً لأعمالهم ولكن على حد تعبير غراهام فوللر (مجلة السياسة الخارجية، النسخة العربية، يناير/ فبراير 2008م): لو كان الإسلام غير موجود في المنطقة فإن عانت من مظالم داخلية وخارجية كانت سوف تؤدي لنفس النتائج.
الحرب بحجم عالمي مورست ضد القاعدة لمدة 14 عام. ولكنها في هذه الفترة توسعت وتعددت فروعها.
والخلافة المزعومة في الرقة والموصل تواجه حرباً يشنها تحالف دولي ربما نجح في الإطاحة بهيكل دولتها ولكنها ما دامت أسباب نشأتها قائمة سوف تجد وسائل أخرى للاستمرار ففي الأسبوع الماضي وحده قاموا بعمل إرهابي في: برلين، والكرك بالأردن، والقاهرة، وعدن، وأنقرة.
هنالك ضرورة لعبور في المجال الدولي بيانه:
كان تكوين النظام الدولي الحالي في عام 1948م وعدد من أسسوه “51” دولة وهم الآن 193 دولة الأعداد الإضافية لم تشترك في التكوين.
وأعطى النظام خمس دول حق النقض في مجلس الأمن بصورة أحدثت شللاً في وظيفة الأمم المتحدة لحماية الأمن والسلام ما أتاح فرصة لكثير من العدوان الذي يحمي المساءلة الدولية فيه حق النقض.
النظام الاقتصادي العالمي وصفته أوكسفام في اجتماع دافوس في 2015م بأن أغنى ستة أشخاص يملكون ما يساوي نصف ما يملك العالم كله. إن توزيع الثروة داخل البلدان وفيما بينهما قنبلة قابلة للانفجار.
قال توماس بيكي في كتابه “رأس المال المختل”: “إن الثروة موزعة داخل البلدان، وفيما بينها، بصورة خاطئة”. قال: “إما أن تدرك النخب الثرية أن البؤس الاقتصادي لا يمكن تفادي عواقبه المدمرة إلا بتوزيع أكثر عدالة للثروة أو فإن إهمال هذا الأمر معناه انطلاق أيديولوجيات تحدث اضطرابات ذات دوافع اجتماعية”.
إن النظام الدولي الحالي والنظام الاقتصادي الحالي يهددان السلم والأمن الدوليين.
وقديماً قال الإمام علي كرم الله وجهه: “ما جاع فقير إلا بما متع به غني”. وأسس كارل ماركس نظريته على رفض الظلم الاجتماعي، وشكى حافظ إبراهيم قائلاً:
أَيُّها المُصْلِحُونَ ضاقَ بنا العَيْـشُ ولمْ تُحسِنُوا عليه القيامَا
أصْلِحوا أنفُسَا أضرَّ بِهَا الفقْرُ وأحْيا بمَوتِها الآثاما.
من أسباب دخول العالم مرحلة تتطلب اهتماماً عاجلاً لبروز سجال ظلامي بين حركات متطرفة ترفع شعارات إسلامية وتيارات دولية يمينية متطرفة مشبعة بالغطرسة والإسلاموفوبيا.
وبالإضافة لهذا السجال تتمدد الحالة الاجتماعية التي لم تستطع أهداف الألفية ولا أهداف التنمية المجدية أن تحدث فيها عبوراً حقيقياً نحو عالم أعدل وأفضل.
كل الأديان الإبراهيمية يتوقع بعض علمائها يوم مفاصلة دموية بين الحق والباطل. ولكنني اعتبر الاختلاف من وسائل التقدم: (وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا).
فللتدافع وظيفة ايجابية ولدعاة الحق وظيفة مرجوة للاصطفاف ضد الباطل وأهله.. رسالة أحرص على أدائها جهاداً مع المؤمنين بدين والمسترشدين بعقل فيما بقى من العمر وربنا يقول: (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ).. وشاعرنا يقول:
إن للحق قوةً ذات حدٍ من شباة الردى أدق وأمضى.
بقلم الإمام
الصادق المهدي