بلغ الخطاب السياسي في الفترة الماضية مستوى من الانحدار لا يمكن تصديقه، كان قياس المستوى هو عبارة لحس الكوع الشهيرة، لكنه الآن وصل مستوى “نعصرهم لما يجيبوا الزيت”، هذه العبارة وردت على لسان قيادي بالمؤتمر الوطني في خطاب علني، بالإضافة- طبعا- إلى العبارات والاتهامات المستهلكة التي لاكتها الألسن كثيرا حتى لم يعد لها معنى، مثل أن المعارضة تتحرك بمؤامرة إسرائيلية وأمريكية وغيرها.
مستوى الخطاب السياسي يعكس الحالة النفسية لمنتجه، أكثر مما يعكس أي شيء آخر، ولعله يعطي دلالات وإشارات عكس ما يظن منتج الخطاب، فهي في حالة المهاترات تعني أنه وصل حالة من الهياج وعدم التركيز- وربما- حتى فقدان الثقة بالنفس، بجانب ضعف الموقف السياسي؛ حيث تعجز العبارات واللغة السياسية العادية التعبير عنه، هناك أزمة سياسية حادة في بلادنا، تستخدم الأطراف السياسية أشكالا من الخطاب السياسي والمواقف لتعبِّر عن مواقفها حيالها، وكلا من الخطاب والموقف يعكسان نية كل طرف واتجاهاته.
اللغة الهادئة والوسائل السلمية تعكس رغبة في التعامل العقلاني الهادئ مع الموقف، بينما تستبطن اللغة العنيفة اتجاها خطيرا نحو التصعيد العنيف، الذي- ربما- يصل مرحلة العنف الجسدي، هناك- أيضا- خطاب تم استهلاكه، وتجاوزته الظروف، حيث لم يعد يحرك ساكنا أو يجذب ويقنع من يستمع إليه، أسلوب التخوين والتهديد والوعيد لن يخيف أحدا، هذا الوطن لا يملكه فرد أو حزب أو حركة، حتى يحدد على هواه من يقيم فيه، ومن هم “ليس لهم مكان هنا”، وليس لدينا وطن آخر زائد، على قول الشاعر أحمد مطر، لنسلفه للبعض ليقيموا عليه دولتهم الخاصة، حتى الخطاب الديني استخدم كثيرا، وخصع منتجوه لتجربة عملية على أرض الواقع لسنوات طويلة، اختبرتهم الحياة والمواقع والمناصب، ويشهد الشعب على سلوك منتجيه، ومدى التزامهم بالمحددات الأخلاقية، والدينية، لن تكفي نوعية ما ترتديه من أزياء، أو ما تضعه من مساحيق، أو ما تستخدمه من لغة ومصطلحات لكي تقنع الناس بتجردك، ونزاهتك، وحرصك على الوطن، ومواطنيه، وثرواته، فقد كنت في هذا المنصب، أو ذاك، وتحملت المسؤولية في مكان آخر، وسيحاسبك الناس على سلوكك العملي في هذه المواقع.
يروي الدكتور فيصل عبد الرحمن علي طه أن والده الراحل العظيم بعد أن اعتزل المنصب، والعمل السياسي أخلى المنزل الحكومي، وعاد إلى أربجي ليقيم مع أسرته، فأرسل إليهم الموظف الحكومي المسؤول عن العهدة خطابا يقول فيه إن طبلة “قفل” المخزن مفقودة، بالتالي لن يستطيع استخراج خطاب خلو طرف، فأرسل عبد الرحمن علي طه ابنه فيصل إلى الخرطوم ليشتري الطبلة، ويسلمها إلى الموظف؛ ليحصل على خطاب خلو الطرف، لم تكن في ذلك العهد شعارات دينية، ولا خطاب يتشدق بالقرب من الله، والاتصال بالسماء، لكن كان هناك سلوك عملي، من الوزير، ومن الموظف، ومن الجميع، يقول إن القيم الدينية والأخلاقية وقيم ومسؤوليات وأمانة العمل العام والمال العام موجودة ومحفوظة، المحك في النهاية ليس الخطب، ولا البكاء على المنابر، ولا طق الحنك، لكنه العمل والسلوك، فأين هذا من ذاك؟.
فيصل محمد صالح