هناك أمران اثنان لا بد من معرفتهما عن مستشفى أبو عنجة الحكومي المقام بأم درمان لمرضى الدّرن (السّل)، أولهما أن المستشفى يعد واحدًا من المستشفيات المرجعية في مرض الدّرن والدّرن المقاوم في منطقة الشّرق الأوسط وأفريقيا، وليس في الأمر أدنى مبالغة، نظرًا للخبرة الطويلة التي حازها في علاج وتشخيص هذا المرض. وطبقًا لمنظمة الصحة العالمية فإن أفريقيا، في العام 2013، كانت صاحبة أعلى نسبة من الحالات الجديدة مقارنة بالسكان، وهي 280 حالة لكل 100.000 من السكان.
الأمر الثاني هو أن المستشفى، الآن، أشبه ما يكون بمكب للنفايات، فإذا تجاوزت الوساخة الطبيعية التي تخلِّفها استخدامات الأفراد من أكياس وأوراق ومقتنيات؛ فإن المعدات والأجهزة الطبية القديمة تتكدَّس بالأطنان على باحة المستشفى وأضابيرها: أدراج خشبية وحديدية ودواليب وأجهزة طبية، تأتي من المستشفيات الأخرى لتجد مكانها، هنا، في مستشفى أبو عنجة، وتكوِّن بذلك الملمح الأبرز للمستشفى الممتد على مساحة (25) فدانًا ومفتوحة أبوابها بلا رقيب؛ حتى تنتهي حوافها إلى دغل ترتع فيه الأحصنة، وتتكاثر فيه الكلاب.
تبدو مباني المستشفى منقسمة على نمطين من الأبنية، الأولى حديثة ذات طوابق، وهي المخصصة للإدارة والأطباء الاختصاصيين البالغ عددهم (12) اختصاصيًا، أما الثانية فأرضية قديمة ومتسخة، وهي الأبنية المخصصة للمرضى. ويقول الدّكتور إيهاب عمَّار الطبيب بالمستشفى، وهذا هو اسمه المستعار، نظرًا للمشكلات التي قد يواجهها بسبب حديثه للصحافة، إن ثمة “عنابر أغلقت بسبب احتمال سقوطها على رؤوس المرضى”. وفي هذا الخضم من بؤس المستشفى، يبدو إيهاب عمَّار شديد السّخرية من الحملة الإعلامية لوزارة الصّحة المسماة (اليوم العالمي للدرن) ويقول “إن ساعة واحدة منه لم تمر قط بمستشفى أبو عنجة”.
يعد مرض الدرن (السل) من الأمراض القديمة المعدية وتسببه بكتيريا تسمى (الميكروبكتيريوم)، وله خاصية الانتقال من مريض إلى آخر عن طريق الهواء، أو عن طريق تناول أكل ملوث بالبكتريا كالألبان، مثلًا. وطبقًا للأطباء فإنه غالبًا ما يصيب الجهاز التنفسي، ومع ذلك، قد يصيب أي عضو آخر في الجسم، بما فيها العظام، وأيضًا، هو من الأمراض المرافقة لفيروس الإيدز.
يستقبل مستشفى أبو عنجة المرضى من الخرطوم وجميع أنحاء السّودان، وفي الخرطوم التي صنفت في 2014، بأنها الأكثر في اكتشاف المرض، بواقع 6 آلاف إصابة، يغلب المرضى القادمون من أحياء مدينة أمبدة، ومدينة بحري، وجبل أولياء، والأحياء الطرفية من الثورات، إلى جانب المرضى من ولايات دارفور وكردفان، وهم من الفئة العمرية الواقعة ما بين سن 22 حتى 70 سنة. لكن المدير العام الدّكتور محمد سيد أحمد كنة يقول إن المرض منتشر في جميع أنحاء السّودان. فيما يقول إيهاب عمَّار بما يشبه المأساة العظيمة إن “ثمة مرضى يعافهم ذووهم، ويودعونهم المستشفى دون رجعة”.
في مكتب المدير العام للمستشفى ثمة مجسم كبير، يوضح الهيئة التي ينبغي أن يكون عليها المستشفى في المستقبل، لكن المجسم يبدو خياليًا بالنظر إلى الميزانية المخصصة للمستشفى التي يقول الدّكتور كنة إنها لا تتجاوز (73) ألف جنيه فقط للشهر، وعادة ما تستغرق جميعها في الوجبة المجانية المقدِّمة للمرضى، وينتظر الإعانات والمبادرات الأهلية والطوعية لتكملة ما تبقى من النواقص، على حد قوله. وفي هذا الوضع، يتحفظ الدّكتور كنة من الحديث إلى الصّحافة، لكنه يقر بوجود “مشكلات كثيرة في المستشفى… حتى إن عمال النظافة العادية ليسوا بالعدد الكافي المطلوب.. وجميع المشكلات ناجمة عن قلة الدّعم لهذا المستشفى الذي يعد هو المرجعي الوحيد لمرض الدّرن في البلاد والشّرق الأوسط”. ويضيف: “لو قلتم لي إن المستشفى عبارة عن زبالة، لقلت: نعم”! ومع ذلك، يوجِّه كنة شكره للصندوق النرويجي الذي يوفّر أدوية الدّرن للمستشفى مجانًا. ثم ينهي كنة حديثه المقتضب الغاضب بقوله: “لديّ مساحة واسعة من الأرض، لو بعت ربعها فقط لأقمت المستشفى الذي أحلم به لهؤلاء المساكين”!.
اليوم التالي