في عهد الديمقراطية الثالثة بقيادة الصادق المهدي والميرغني 1986- 1989ضربت السودان بلايا عظيمة لم يحضرها جيل اليوم، منها المجاعات التي ضربت حتى الخرطوم وجعلت أغنياءها يأكلون (القرقوش بالملح) ويشربون الشاي بالبلح و(الدربس)، ومنها الجفاف والتصحر الذي أهلك الزرع والضرع والإنسان ومنها السيول والفيضانات التي دمرت نصف الخرطوم ومنها ومنها ومنها، كان الخبز سلعة نادرة قيمة، وكانت المواصلات حلم وكان الأسفلت رفاهية وكانت الإتصالات ترف منعدم،
وكان التعليم بثلاث جامعات فقط في السودان كله، وكلها في محافظة الخرطوم، وكان وكان وكان، وفوق هذا كله كانت حرب الجنوب طاحنة يواجهها جيش منهك لم تبق له سوى (خنادقنا مقابرنا)، وكانت إذاعة التمرد من إثيوبيا تسمع في الخرطوم تهدد الناس بالويل والثبور وعظائم الأمور، وتلعن الأحزاب بعضها، كان الشعب معدما وجائعا وفقيرا يحمل المال ولا يجد ما يشتريه من طعام وشراب وملبس ودواء، كان الصابون والسكر والزيت والبنزين وحتى السجائر بالصفوف الطويلة مرة في الأسبوع أو مرتين في الشهر، وكانت السيارات على قلتها الشديدة تمكث اليوم واليومين في الطلمبات وقد لا تجد ما يروي ظمأها..
يومها كنا نرى شباب (منظمة شباب البناء) واجهة الجبهة الإسلامية القومية التي تطورت إلى المؤتمر الوطني والشعبي النقيضين اليوم نراهم وهم يحملون على ظهورهم أكياس الدقيق وجركانات الزيت وأكياس البصل والسكر يطوفون المنازل في الظلام يوزعون أكياس الإغاثات التي تجلبها منظماتهم بينما يبيع البعض الإغاثات في السوق الأسود والناس في أمس الحوجة لها!! كان شباب الجبهة مثالا حيا للزهد والبذل ولا يجتمعون إلا لخدمة المجتمع، وكان هذا من أسباب فوز الجبهة الإسلامية في الإنتخابات وصعودها لمصاف الأحزاب الضخمة، وكانت كلمة (كوز) تعني متدين لو كنتم تعلمون، وقد جعلتها الPropaganda اليسارية اليوم تعني العكس، وذلك بمساعدة من بعض الحاكمين الذين غرتهم السلطة والحياة الدنيا وزخرفها وصار شرهم يعم غيرهم.
اليوم يعيش السودانيون أزمة إقتصادية ويضربهم ويضر بهم الفقر والمرض وعدم الإستطاعة، وحالهم لا يخفى على أحد من العالمين، لا يخفى ذلك إلا على شباب الحزب الحاكم الذين اختفوا هم أنفسهم خلف الزجاج المظلل والمكاتب المثلجة والشركات المحروسة وأصبحوا لا يشعرون بالضيق ولا بالحفر على الطريق!! صار خطابهم خطاب سلطة وعظمة وحالهم حال الأمراء الرفيعين ومقامهم بعيد ونظرتهم علوية.. وإلا أين تشميرهم لسواعد العون واستعدادهم لقرارات كبارهم الأليمة؟ أين قوافلهم الصحية والإغاثية وحملات النظافة وأسابيع الثقافة وحملات التشجير ومشاريع مكافحة المخدرات والآفات؟ أين حملاتكم لدعم المدارس والمستشفيات ودور المشردين فالله سائلنا وسائلكم عنهم.
لا سبيل اليوم لشباب الحزب الحاكم المنسوبين للإسلام وللدين والنبوة والمجتمع المتصوف أو المتسلف، لا سبيل لهم اليوم إلا أن يرجعوا لله وللشعب خداما حفاة، يحملون الكل ويطعمون الجائع ويداوون المريض ويسعون لليتيم ويقيلون عثرات الأرامل ويحملون على ظهورهم الدقيق والسكر والبصل والزيت في الظلام إلى كل فقير ومحتاج ومعدم ومتعفف.
هكذا كان النبي عليه الصلاة والسلام وخلفاءه الكرام، من منكم يا شباب الحزب الحاكم أرفع شأنا من أبي بكر وعمر وعثمان وعلي؟ من منكم أكرم وأعلم من أبو ذر الغفاري وعمر ابن عبد العزيز؟ من منكم يا خريجي مدارس صناعة القادة ومراكز التنمية البشرية وكورسات ال NLP؟ ومن هو قدوتكم ودليلكم؟
إن الفرصة قد تطول يا شباب ولكنها لا تتكرر، فسياسة حزبكم التي طبقها أفرزت واقعا لا تسكروا عنه بالسلطة والغنائم، ولا تصدوا الغضب بالسلاح ولكن ردوه (بالملاح).. أطعموا الطعام وأفشوا السلام وأحيوا فضل الظهر فأنتم أبناءنا ولستم أعداءنا ولسنا كفار قريش نعم نحن شيوعيون وشعبيون وبعثيون وملاحدة وجمهوريون ومجدفون ومهرطقة وفينا العملاء وأغلبنا لا ناقة له ولا جمل فيكم ولا في غيركم، لكن تراثكم النبوي الشريف يقول (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته) و( في كل كبد رطبة أجر) أليس كذلك..
هذا برنامج عمل لكم من عامة الشعب إن قبلتموه فبها ونعمت، وإن ترفضوه فهذا شأنكم والطبيعة لا تعرف الفراغ، والتحية لشباب شارع الحوادث وشباب النجدة وغيرهم، قلنا أنه ربما انعدم فيكم المبادرون والمبدعون وانشغلوا بدورات التأهيل ورحلات التدريب والمؤتمرات الخارجية والصراع على تولي المسئولية أمام الله والبروز لسؤاله دون خلق الله، فهل يوقظكم هذا وأنتم أهل الإمكانات والأقدر على استقطاب الدعم من دولتكم وكباركم ومؤسساتكم ودولكم الصديقة لمحمد احمد المسكين وحاجة آمنة المريضة وآدم العاطل فهم أهلكم أليس كذلك.
الأجدر اليوم بشباب الأحزاب كلها وهم الأكثر تنظيما أن يقفوا وقفة إيجابية مع الناس تحتا وليس مع أحزابهم وقياداتهم فوقا، وفي الواقع عملا وليس في الأسافير والخيال حلما، فأحزابكم تطلب السلطة والشعب يريد العون والجائع والمريض لا ينتظر أن تمطر له الإنترنت ذهبا أو غزوا وتحريرا، مسئوليتكم أن ترفعوا يا شباب الأحزاب ويا شباب الأحياء أعينكم المنهكة ساعة في اليوم عن شاشات الهواتف وإدمان الشائعات لتنظفوا تحت أرجلكم وأمام منازلكم وأحياءكم وتعينوا أنفسكم وغيركم على نوائب الدهر بعمل طوعي خيري نافع بدلا عن ألا نسمع عنكم إلا المجادلات الفارغة والفلسفة الجوفاء والضحالة الثقافية والعنف الجامعي ودوامات التنظير على وسائط التواصل الإجتماعي ومحاربة طواحين الهواء، فهذا أوان (الحوبة).
ودمتم سالمين،،،
بقلم
أبو سليمان
16/12/2016