مستعمرة (الحبش) (2).. الديم ..الحركة تهدأ نهاراً وتزيد ليلاً.. وتوافد كثيف للمراهقين

الديم.. أرض سودانية الهوية أثيوبية الهوى

الحركة تهدأ نهاراً وتزيد ليلاً.. وتوافد كثيف للمراهقين

شباب ينشطون في توزيع المخدرات والشاشمندي.. وفتيات في دائرة (الدعارة)

نافذون في موضع الاتهام.. وهذه هي قصة (الموتر) الذي لا يحمل لوحات

ما يتناقله الشارع العام، حفّز همّتنا، فطفقنا نحقق باحثين لمعرفة الدوافع التي تسببت في وصم حي الديوم وتحديداً الشرقية منها، بالكثير من الأقاويل التي تدور حول الحي، لا سيما أنه قد كثرت وتواترت إلينا العديد من الشكاوى الفردية من ساكنيه، وقد طفح بهم الكيل في مناحٍ مختلفة لم يحتملوها. كل ذلك جعلنا نتجول في الحي لمدة عشرة أيام متصلة لفحص الظاهرة، في الحي الذي زادت شهرته بعد حادثة مقتل المواطنة (عوضية عجبنا جبريل شرنوف) بنيران بعض منسوبي الشرطة بالديوم الشرقية (الخرطوم) في إطلاق نار غير مبرر على مدنيين عزل، في حي يبعد عن قصر الرئاسة في الخرطوم، بكيلومترات محدودة.

توطئة:
حينما وقف الزميلان ناجي وتيسير على بعض الحقائق داخل حي الديم، استقر الرأي على أن يخوض الزميل ناجي مغامرة الحضور ليلاً والدخول إلى تلك البيوت، وأن تتولى الزميلة تيسير مهمة التنقيب نهاراً معية ناجي، وهو ما حدث طوال أيام هذه الجولة.

مشاهدات ليلية
حينما يتجول المرء ليلاً بمنطقة الديم، لن تخطئ عينه العدد الهائل من “بائعات الشاي” الأثيوبيات اللواتي ينتشرن على ميادين المنطقة وأسواقها ومواقع تجمع المواطنين، هذا التواجد الكثيف يسبب إزعاجاً للمواطنين فضلاً عن التشويه الكبير والمنافي للقوانين، ومن المفارقات أنه على الرغم من كونها “ثقافة أثيوبية” نظراً لكونها دخيلة على مجتمعاتنا السودانية إلا ان القوانين في دولة أثيوبيا لا تسمح لهن بذلك.

عدد ستات الشاي
وجدنا خلال هذه الجولات الليلية أن عدد بائعات الشاي من الفتيات “الحبشيات” يقدر بحوالي 750 بائعة منتشرات على الميادين الداخلية للمنطقة وأسواقها، هذا بخلاف “الجنبات” المنتشرة بالمنطقة ووسط السكان من أبناء الديم وهي تحتمل كل شيء حسبما قال لنا مواطنون هناك, ولهذه قصة مختلفة ولكي تكون أيها القارئ الكريم في الصورة سنشرح لك تفصيلاً ماهية هذه البيوت وماهية نشاطاتها وكيف تدار وما هي “الأقنعة” التي تتخفى خلفها، بيع الخمور البلدية وغير البلدية والبنقو و”الشاشبندي الأثيوبي” والأخير نوع خطير جداً من أنواع الحشيش يفوق خطورة كافة المخدرات، وهو عبارة عن نبات أشبه بالملوخية المجففة، ويفعل في العقل ما لا يفعله “البنقو” أو أي مخدر آخر، إذ أنه يعمل على حل الاعصاب أو ما يعرف طبياً بـ(الشلل الرعاش)، وهذا النوع من المخدرات يجيء من وراء الحدود عبر ذات الطريق الذي يتسلل منه “الحبش” ويطلق عليه اسم “الشاش” اختصاراً.

حصرية الزوار
ومن الملاحظ أن معظم مرتادي هذه البيوت تتراوح أعمارهم ما بين السادسة عشرة والثلاثين، ولكي نتأكد من ما قاله لنا أحد أبناء المنطقة، قمنا بزيارة أحد هذه البيوت، وشاهدنا ما لا نستطيع ذكره هنا نظراً لأنه يخدش الحياء العام وينافي العادات السودانية، وحتى العقائد الاسلامية، لكن سنحاول قدر المستطاع أن نبين لكم بعض ما يحدث بداخلها, خاصة أن هذه البيوت التي تشرف على إدارتها فتاتان أو أكثر من الفتيات “الحبشيات” لا تستقبل سوى عدد معين من الزوار وبعده لا يدخل أحد أبداً.

(حينما علم الزميلان ناجي وتيسير بهذه المعلومة استقر الرأي على أن يخوض الزميل ناجي مغامرة الحضور ليلاً والدخول إلى تلك البيوت، وأن تتولى الزميلة تيسير مهمة التنقيب نهاراً بمعية ناجي، وهو ما حدث طوال أيام هذه الجولة).

بيوت قُسّمت
بعدما استقر الرأي على أن أتولى مهمة التنقيب في الحي ليلاً، قررت الاستعانة بأحد أصدقائي من أبناء الحي عله يكون دليلاً لي، وحينما أخبرت صديقي بمطلوبي قال لي “يا ناجي دي مهمة صعبة بالنسبة ليك”، فكنت مصراً على خوض التجربة، وعندما ذهبنا سويًا لاحظت أن البيوت مصممة بصورة غريبة جداً إذ أن الباب الرئيس المؤدي إلى داخلها يطل بصورة غير منفصلة على استقبال وبه عدد من الكراسي وأمامه مباشرة تجلس حسناء حبشية خلف تربيزة بيع شاي بحيث إنك يمكن أن تنظر إليها من خارج البيت، حينما يدخل شخص لا يعلم المهام الأساسية لهذه البيوت يتم فحصة بنظرة سريعة وبعدها يقرر إذا بالإمكان استمالته أو عدمه, وغالباً يكون القرار بعد إغوائه فإن مال كان ضحية سهلة، وهذا النوع لا يباع له أي من أنواع المخدرات المذكورة، فقط تتم مغازلته و”تنفيض” ما بجيبه وقد يتم الأمر بنفس البيت أو قد تخرج معه إحداهن ولهذا سعر آخر يبدأ بالمائة جنيه وقد يصل إلى 500 جنيه في بعض الحالات.

داخل الحجرات الخاصة
هذا لو كان الزائر غير مدرك للسلع الأساسية في هذه البيوت، ولو كان يعلم أو كان زبوناً معلوماً لديهن تتم معاملته بطريقة مكشوفة أو أكثر وضوحًا من الحالة السابقة, سمعت إحداهن تنادي على أحدهم وهي داخل حجرة صغيرة تصنع داخل الغرفة نفسها حيث يحيط بها الزنك من جهتين والثالثة مكشوفة والرابعة حائط الغرفة كانت تنادي بلكنة بالكاد تميزها “تعال خلينا نتخارج”, جلست في تلك الفرندة “الاستقبال” وطلبت جبنة كان شكلي يوحي بأنني شخص يعلم لماذا أتى بعد أن عملت بنصيحة أحد أبناء المنطقة، فقالت لي “خش جوة” وأومأت برأسي إلى ستارة ورأيت ما لم يخطر على بالي وأصدقكم القول لم يكن بهذه الغرفة أي كرسي أو غيره فاسرعت وأتت لي بكرسيين لي ولصديقي “من أبناء المنطقة”.

حقيقة ما يدور بهذه البيوت
كانت رائحة الغرفة نتنة نظراً لكونها مغلقة تماماً وليس بها أي شباك أو منفذ ثم خرجت، وبينما نحن وقوف جاءت فتاة أثيوبية اخرى قدرت عمرها بعشرين عاماً أو أقل بقليل طلبت منا في غنج أن نجلس وأشعلت أكثر من عود معطر للجو “ند”, تحيرت من كونها لا تعرف اللغة العربية جيداً ولا حتى الإنجليزية فقط كانت تعرف بعض الكلمات التي توحي أنها ستحقق كل ما أطلبه منها، شربنا القهوة وجلسنا نتجاذب معها أطراف الحديث ولاحظنا أنها تفهم بعضه ولا تفهم معظمه، ولكنها كانت حريصة على الابتسامة وإظهار قدر من الغنج، وبينما نحن جلوس جاءت أخرى تقول أن نسرع لأننا أخذنا وقتاً طويلاً وطلبت منا حق القهوة التي بلغت (40) جنيهاً دفعنا لها (50) جنيهاً، هنا قال لي صديقي إن هذه الفتاة لن تمانع إذا طلب منها أحدهم الذهاب معه إلى حيث يريد. لم أصدقه فكان أعرض عليها الأمر فوافقت وهو ما كان صادماً لي بدرجة كبيرة. قبيل مغادرتنا طلبت منها بنقو أو شاشمندي فقالت لي: “أنا ما ببيع لكن في زول تاني بوريهو وبجيب ليك”، قلت لها كم سعره قالت 100 جنيه.

سوق المخدرات
ولكي أتحقق من هذه المعلومات واستوثق منها جيداً رصدت حركات بعض الشباب وبعد أن وثقوا في شخصي من خلال الجلوس معهم لعدة أيام متتالية أخبروني بأنهم يشترون (البنقو والحشيش والشاشمندي) من منطقة الديم، ويتم توزيعها على بعض قاطني الأحياء الراقية في الخرطوم كالطائف والمنشية والرياض والعمارات ونمرة 3 أو نمرة 2، ومن العجائب أن هؤلاء المراهقين يشترون من المنطقة بمبلغ 100 جنيه ويتم بيع الكيس في تلك المناطق بمبلغ 150 أو200 جنيه.

من السلوك إلى التجارة
هذا يؤكد لك عزيزي القارئ أن الأمر برمته تجاوز مرحلة السلوك العام غير الجيد أو العادات الدخيلة أو حتى الانحراف والانحلال إلى التجارة فأصبحت هذه السلوكيات بمثابة تجارة رابحة اتجه إليها عدد من الشباب في ظل البطالة التي يعيشون فيها, ولذلك تجد أن هنالك عدداً كبيراً جداً من السكان بالمنطقة يتوجسون خيفة على مستقبل أبنائهم ويصرخون بـ”الفم المليان” يستغيثون بالمسؤولين ولكن بلا جدوى.

اشتباكات يومية
المثير في القصة كلها أن هناك ظلالاً اجتماعية سالبة على الحي وقاطنيه، إذ تنشب أكثر من 10 اشتباكات يومية بالأيدي والسلاح الأبيض بين الشباب من سكان الحي والدخلاء بسبب دخول أبناء المناطق الأخرى للعربدة داخل الديم، وتأكد لـ(الصيحة) من خلال هذه الجولات الليلية التي قامت بها أن هناك مراكز قوى تساند هذه “الجمبات”، ومن خلال رصد تحركات عدد من “فتيات الليل” اللواتي يعملن بها وجدنا أن هناك ترحيلاً يومياً من السكن وفي الغالب يكون بالديم إلى الجنبات والتي أيضاً قد تكون في الديم أو بالمناطق الراقية في ولاية الخرطوم كالصافية بحري وكافوري أو الرياض والمنشية أو في الأحياء الأمدرمانية الراقية.

أصحاب الجنبات
وبعد الرصد والمتابعة تمكنتُ من الحديث مع إحداهن والتي صعقتني من خلال إفاداتها النارية التي أكدت فيها بأن معظم هذه الجمبات يمتلكها سودانيون إما نافذون أو أصدقاء لنافذ أو شركاء له، وقطعت بأن الجهات الرسمية حينما تذهب إليها يطلب منها فقط دفع مبالغ مالية وبعدها تعود معززة ومكرمة إلى “عملها”.

وعلمت أيضاً أن أصحاب “الجنبات” لديهم علاقات وطيدة مع بعض الفتيات خاصة الجميلات منهن حيث أنه يستأجر لها شقة مفروشة ويقوم بمساعدتها مالياً عبر تحويله إلى أهلها بأثيوبيا.

دراجة نارية بدون لوحات
يقول أحد السكان بالمنطقة وهو ضابط بالمعاش إنه رصد حركات مريبة لسائق دراجة نارية أجنبي يقوم بالسعي بين بائعات الشاي في منطقة الديم ويخرج شيئاً من شنطة صغيرة يحملها على كتفته فتأخذها الفتاة وتعطيه مبلغاً من المال, يقول إن هذا المشهد تكرر بصورة دائمة وأن الأجنبي بمجرد أخذه المال يهرب بعيداً في الظلام بدراجته النارية التي لا تحمل أي لوحات.

مراهقون في البيوت المشبوهة
من الغريب جدًا أن معظم مرتادي هذه البيوت الليلية هم من المراهقين ولو أردنا تفصيل الأمر نجد أن أبناء الأسر محدودة الدخل يمثلون النسبة الأقل ولكن النسبة الأكبر والتي تكاد تتجاوز السبعين بالمئة من المراهقين ومرتادي “الجنبات” أبناء أسر ميسورة كما بدا لنا من أشكالهم.

سيارات فارهة بعد منتصف الليل
عندما تشير عقارب الساعة إلى الواحدة بعد منتصف الليل تبدأ حركة دؤوبة لسيارات فارهة تغزو منطقة الديم وكل سيارة من هذه السيارت يقودها إما شاب لوحده أو معه أقرانه، وفي بعض الأحيان يكون رجلاً راشداً تجاوز الأربعين من عمره , تقصد كل سيارة من هذه شارعاً معيناً تقف عنده وتطفئ الأنوار ولا تري أي نور خلاف الهاتف الخلوي الذي يستخدمه السائق وبعدها تأتي فتاة من نفس الشارع مسرعة جداً وهي في كامل أناقتها وكأنها ذاهبة إلى حفل راقص فتصعد إلى العربة بعد أن تلقي تحية قبل أن يتم فتح الباب لها، وهي تحية يصعب علينا أن نحكيها لكم لما فيها من خلاعة، ولاحظت أن معظم الفتيات اللواتي يركبن السيارت الفارهة هذه من الأحباش مما يشكل تهديدا خطيرا للأسر بالمنطقة. هنا تقول الحاجة مريم من سكان الديم إنها لا تشعر بالأمان إطلاقاً، وكشفت أن حركة هؤلاء الحبشيات تبدأ بعد منتصف الليل، وتقول ساخرة “بالنهار نائمات بس وبالليل عينك ما تشوف إلا النور”. وتضيف أنها تخشى على سلوك الفتيات السودانيات وتجزم بأنها كلما قامت بتركيب “نور” لإضاءة الشارع يتم كسره عن قصد.

تهديد للسلم الاجتماعي
مريم اعتبرت السكن العشوائي لهؤلاء الأحباش مهدداً للسلم الاجتماعي ومخرباً للعادات السودانية والتعاليم الإسلامية، وـنه جعل أصحاب العقارات يبالغون في أسعار الإيجار حتى استعصى على معظم السودانيين استئجار منزل بالمنطقة، ويتفق معها الحاج عثمان الذي يقول إن بقاء الأحباش معهم بهذه الطريقة غير المنظمة يشكل ضغطاً على الخدمات الأساسية على قلتها كالغاز والتعليم والعلاج وغيرها من الخدمات.

تحقيق: تيسير الريح ـ ناجي الكرشابي
صحيفة الصيحة

Exit mobile version