طيلة ستين عاماً، كان يوم 19 ديسمبر موعداً وطنياً للاحتفلال بذكرى استقلال السودان من داخل البرلمان في العام 1955م. طيلة ستين عاماً والشعب يحتفل بتحقيق استقلاله الذي جاء كـ (صحن الصيني .. لا شق، لا طق). غير أن الذكرى التي تحمل رقم (61) وتصادف احتفالات 19 ديسمبر 2016م تحل على البلاد وهي منشقة على نفسها (وتكاد تطق) بين مؤيدين للعصيان المدني الذي أعلنت عنه مجموعات شبابية في مواقع التواصل الاجتماعي بمؤازرة قوى المعارضة، وبين معارضين له يؤمهم حزب المؤتمر الوطني الحاكم.
ويأمل أنصار العصيان المدني، في حملتهم التي تجتاح مواقع التواصل الاجتماعي حالياً أن يلزم سكان الخرطوم منازلهم يوم الإثنين 19 ديسمبر الجاري، في محاولتهم الثانية، بعد أولى قالوا إنها ناجحة بنسبة تفوق الـ 70%.
وبموازاة ذلك، ناشد حزب المؤتمر الوطني الحاكم، منسوبيه بالانضمام لحملة إسفيرية مضادة لدعوة العصيان، كما وحرص على إرسال رقاع الدعوة للشعب السوداني حتى يقطع الطريق أمام ما يسميه بسيناريوهات المعارضة الفوضوية، محذراً من تكرار تجارب دول تداعت بعد الربيع العربي، وهو توصيف أطلقه بالضبط الرئيس عمر البشير على عصيان 27 نوفمبر الذي عده فاشلاً بنسبة مليون في المائة.
بين رأيين
من البداهة بمكان، أن يقلل حزب المؤتمر الوطني، من دعاوى العصيان المدني. كان ذلك ديدن جميع قادته، وآخرهم نائب رئيسه، المهندس إبراهيم محمود حامد، الذي قال إن الدعوة إلى إمساك الناس عن مزاولة أعمالهم يوم 19 الجاري مبعثها فشل القوى المعارضة في حشد الناس للتظاهر ضد حزمة سياسات حكومية شملت تحريك سعر الدولار الجمركي من (6 – 16.9) جنيه، وتطبيق رفع جزئي للدعم المقدم لسلع رئيسة كالمحروقات والقمح والدواء، ويباهي قادة الوطني، بأن تفهّم الأهالي كفيل بأن يعصمهم الانزلاق لنماذج الدول التي تجتاحها الفوضى كسوريا وليبيا واليمن.
بيد أن دعاة العصيان، يقولون بأحقيتهم في العصيان، ورقي الوسيلة، وسلميتها، لكيما يتم التعبير عن الرفض الشعبي وفاعليته في الضغط على الحكومة لإعادة ضبط المصنع لما قبل اتخاذ القرار الاقتصادي الأخير، وينوهون إلى أن قيادتهم حملة ضد رفع الدعم عن الدواء، قاد في نهاية المطاف إلى إجراء مراجعات شاملة للقرار والتسعيرة الخاصة بالدواء، كما نتج عن ذلك قرار أطاح بالأمين العام لمجلس الصيدلة والسموم.
ولكن للحقيقة، فإن بعضاً من دعاة العصيان، يبارحون خانة الدعوات المطلبية إلى المناداة بشعارات سياسية تحض على خطوات أوسع تطيح بالحكومة القائمة.
غرفة تقابلها تقليعات جديدة
لنتجاوز ذلك كله، فهو من المعلوم لدى قارئ (الصيحة) الأغر، علماً بالضرورة، وننحو إلى الحدث الجديد، الخاص بتكوين حزب المؤتمر الوطني، غرفة خاصة (يمكن أن نطلق عليها مجازاً غرفة طوارئ) مهمتها قيادة حملة إسفيرية لمحاربة دعوات العصيان المدني في فضاءات العالم الافتراضي.
وبمنأى عن قياس تأثير العصيان في الشارع، فإن تأثيره في (السوشيال ميديا) أو مواقع التواصل الاجتماعي لا ينكره، حتى ذلكم المصاب بالرمد. فقد احتل الوسم (هاشتاج) الخاص بعصيان نوفمبر، المرتبة الأولى عربياً، وصار مثار تداول عالمي وعربي غير مسبوق.
ولإجادة نشطاء الحملة للعبة الاتصال، فإن دعم الهاشتاج بالصور والفيديو والبث المباشر (لايف) فإن الوسم أصبح في حد ذاته مصدراً مهماً لتداول أخبار العصيان، دعك عن السجالات التي تتم بين المؤيدين والمعارضين، ولا تزيد الحملة إلا استعاراً.
جهاد إلكتروني
قبل الغوص عميقاً في ثنايا (غرفة) الوطني، يلزمنا أخذ غرفة من ثلاثة بحور، هي غاية في الأهمية، لمن يريد ورود أمر حروب الأسافير بين الحكومة والمعارضة، وتقطع –أيضاً- بما لا يدع مجالاً للشك بأن خروج الفكرة إلى العلن سبقتها تنظيرات دعت إلى تخلّق هكذا جسم.
فالأمين العام للحركة الإسلامية السودانية، (الحاضنة الفكرية للحزب الحاكم)، د. الزبير أحمد الحسن، طالب في جلسة ضمن مشروع (الهجرة إلى الله) عضوية الحركة لـ (للأخذ بأسباب التكنلوجيا الحديثة والتواجد في الفضاء الإسفيري بجدية، وفضح الدعاوى الكاذبة لــ “مناضلي الكيبورد” الذين يعملون بأسماء وهمية أو مستعارة).
سبقه قبل ذلك بسنوات عدة، في تصريحات صحفية تحوّلت إلى مثار ضجة إعلامية وسياسية، لكل من القيادي البارز د. نافع علي نافع الذي تحدث لعضوية (الكتيبة الإلكترونية) قائلاً إن كيانهم يعتبر رسالة لمن يعتقد أن مبادئ ثورة الإنقاذ انتهت، فيما عرّف الراحل د. محمد مندور المهدي مهام الكتيبة بقوله: (مجاهدو المؤتمر الوطني يقودون عمليات الدفاع الإلكتروني، ولا تستطيع قوة الوقوف أمامهم، خاصة أذيال الشيوعية والحركة الشعبية العاجزين بأساليبهم عن تغيير واقع البلاد).
وكان وزير الإعلام، د. أحمد بلال عثمان، أعلن في وقت سابق، تكوين مركز إلكتروني خاص بمراقبة الإعلام الإلكتروني، للحد مما يراه النشر الكاذب.
أساليب عنيفة
يمثل الفضاء الإسفيري ملعباً شديد الوعورة على كل اللاعبين، فهو ملعب اللاقانون، وعليه تكثر في مضماره الأساليب العنيفة، والتصفيات، فيما لا يمكن حصر الشائعات والمعلومات المغلوطة المبثوثة بطرق متراوحة السبك، لا سيما ضمن الكائن الأزرق (فيسبوك) والطائر الأزرق (تويتر) وابنهما المختلف على نجابته وإن كان مولوداً شرعيا لفيسبوك، ولا نعني هنا سوى تطبيق التراسل الفوري واسع الانتشار (واتساب).
المؤتمر الوطني على يقين لا يتزحزح، بوجود حملات منظمة ضده، تنطلق من منصات الإسفير، وتهدف إلى تصفيته، وتشويه وتلطيخ سمعته، بواسطة حزبيين متمترسين في الغالب وراء تباب أسماء مستعارة. يحدث ذلك في الوقت الذي يقول النشطاء المعارضون، إن الكتيبة الإلكترونية آنفة الذكر، شرعت في أعمالها باكراً وتمارس تخصصها في التخذيل، وبث الشائعات، وزرع الفتن، فضلاً عن تهديدها للنشطاء وتهكيرها لحساباتهم.
وظائف ومهام
اتخذت اللعبة بعد نوفمبر الماضي، منحىً جديداً، حيث جرى ضم سوق الإعلام الخارجي، بأقنيته ووكالاته المتخصصة، لمتابعة مجريات الأحداث في السودان، ما حدا بالوطني إلى إعلانه دخول الملعب، ربما على غير إرادته، مرغماً ومضطراً.
دعونا من (الانترنت العميق) وأمر الكتيبة الإلكترونية التي لا نعلم عنها سوى ما جاء في الأثر عاليه، ولنذهب لهندسة إبراهيم محمود في رسمه الخطوط العراض، لمجابهة العصيان المدني إسفيرياً.
يقول محمود لعضوية حزبه الذين حضروا لقاءه الذي تحوّل إلى (مانشيت) في غالبية صحف الخرطوم الصادرة أمس (الأحد) إن عليهم التصدي للشائعات التي يطلقها دعاة العصيان، من شاكلة أن يوم 19 ديسمبر يصادف عطلة رسمية.
وبما أن حرب الأسافير في العادة ذات مسارين، فإن ذات التهم يعاد تدويرها في آلات المناوئين للحكومة، ومن ثم إخراجها لجمهور المتابعين لا سيما الأنصار. ويفيد النشطاء بأن جلّ الشائعات التي يتم إطلاقها لإخراج الناس من بيوتهم، مستخدمة من قبل الطرف الحكومي وموظفة لإفشال العصيان، من خلال تزوير بيانات وحسابات باسم العصيان وقادته تفيد –مثلاً- بتأجيله أو ربما إلغائه، وخلاف ذلك من شائعات.
أيضاً إبّان اللقاء، كشف محمود حامد عن وظيفة ثانية لغرفة الطوارئ تتصل بتوفير أرقام خاصة للرد على استفسارات العضوية حول ما يثار في مواقع التواصل الاجتماعي. وبعيداً عن محاكمة النيات، فإن الغرفة بهكذا دور، تعمل على تمليك الحقائق والمستجدات للأعضاء مع تمحيص الوارد وتصنيفه.
ذات الدور يلعبه الداعون للعصيان، فهم يعملون على تصحيح المعلومات، وتشذيبها لتأتي مطابقة للحقائق، مخافة تبني معلومات غير صحيحة أو مضخّمة تضر بدعواهم، وعليه بات الفيديو المباشر (لايف) هو أهم وسائل نقل المعلومة وأكثرها بعداً عن إثارة الجدل.نأ
أما الوسيلة الثالثة للغرفة واستبانت في كلام محمود فتخص نشر استمارة للحاضرين، – قد يكون جرى تعميمها لاحقاً لكامل منسوبي الحزب- وتلك وسيلة مهمة إذا ما أراد الحزب الحاكم، نشر شيء ما، على صورة متوالية هندسية، ولذا قد نرى في يوم 19 ديسمبر أناساً لطالما احتجبوا عن مجموعات واتساب وهم في آخر الهمة والنشاط.
غمار الأسافير
من واقع الحال، لن يكون يوم 19 ديسمبر يوماً عادياً، على الأقل في الأسافير التي تعتبر منطقة حرب، للفريقين المؤيد والعاصي، ولمن يحوم حول الوغى، وفي الغالب الأعم سيرتع في حماه.
ولكن استعدادات المواجهة في حاجة إلى فحص عند كلا الفريقين، لا سيما دلالات تكوين غرفة خاصة لمجابهة العصيان في دار المؤتمر الوطني.
ذهبنا في (الصيحة) إلى القيادي بحزب المؤتمر الوطني، د. ربيع عبد العاطي وابتدرناه بالقول إن تكوين غرفة طوارئ لمجابهة العصيان يحمل في طياته اعترافاً ضمنياً بوجود أثر لما يقول الحزب إنه غير مرئي وبلا أثر.
يقول ربيع إن الدعوة إلى العصيان المدني دعوة إسفيرية لا قائد لها، ولكنهم مع ذلك لا يقللون من وسائل التواصل الاجتماعي في تشكيل الرأي العام بما في ذلك بث إشاعات تؤثر على سلامة وأمن المجتمع كما يجري الإعداد له بعيد ثمانية أيام، ومن ثم رمى قولته الفصل بأن دعوات العصيان باطلة، ولكن لا بد من مجابهتها من باب القاعدة الفقهية (اعقلها وتوكّل).
وينفي ربيع أن تكون الغرفة خاصة بيوم 19 ديسمبر فقط، ويشير إلى أنها ستكون في حالة انعقاد دائم لدحض كل الشائعات المبثوثة بنشر ما يقابلها من حقائق، أسوة بما تم خلال الدعوة السابقة التي انتهت إلى الفشل، بحسبان أن دولاب العمل لم يتأثر فيما كانت خدمات المياه والكهرباء والاتصالات والنقل منداحة ومبذولة كما هي العادة.
بيد أن الناطق الرسمي، باسم أحزاب نداء السودان، محمد فاروق، فقد وصف اتجاه حزب المؤتمر الوطني الحاكم، لمجابهة دعوات العصيان، بأنه (غباء سياسي). وأوضح في حديثه مع (الصيحة) بأن إعمال الرقابة على الانترنت هو المستحيل بعينه، وفي الصدد شدد على أن منحى الوطني الأخير لهو دالة حال على الرعب الذي بثه النشطاء في أوصال الحاكمين بإعادة أساليب تنم عن تفرد الشعب السوداني في المقاومة، وتم تجريبها في الإطاحة بأنظمة سابقة.
شرخ مجتمعي
موقف المتحيزين إلى إحدى فئتي (الـ”مع” والـ “ضد”) مهم وفاصل، باعتبارهم الأكثرية الغالبة، ولذا فإن محاولات استقطابهم على أشدها.
ومع حالة الشد هذه، برزت أصوات تحذر من حدوث حالة شرخ مجتمعي بين دعاة الفريقين في بلد منقسم على نفسه في الأساس، وتتفق مع هذه الرؤية، الرؤى الحكومية التي تستلف عيون زرقاء لا ترى في ذلك الموقف إلا الخراب والدمار.
لكن دعاة العصيان ومنهم فاروق، فيصرون على أن الحكومة وحزبها، يرفعون فزاعة (سوريا، العراق، ليبيا، اليمن) لبث الرعب في من يريدون إصلاحاً وتغييراً.
يوم استثنائي
يأتي يوم 19 ديسمبر الجاري على غير عادته، إذ درج على دخول بيوتات السودانيين لستين عاماً، حاملاً معاني الاحتفال. المؤكد هذه المرة أن فريقاً لوحده يريد أن يحتفل في نهايته، تاركاً للآخرين الحسرة والندامة.
الصيحة