القطارات والسيارات التي تسير بلا سائق أصبحت شائعة الآن، لكن متى ستكون هناك طائرات ركاب بلا طيارين؟ التحدي الأكبر هنا ربما يكمن في وجود مسافرين يقبلون الصعود إلى تلك الطائرات.
هل شعرت بالذعر أثناء سفرك على متن إحدى الطائرات؟ سيخبرك الأشخاص الذين واجهوا ذلك الموقف أن الأمر ليس مزحة. وهناك أسباب كافية تجعل الناس يشعرون بالذعر بالفعل. ومن بعض هذه الأسباب طبيعة قبطان الطائرة نفسه، هل يغالبه النعاس مثلا؟ وهل هو في كامل تركيزه وانتباهه؟ هل هو متوتر؟.
هل سيكون شعور هؤلاء الناس أفضل لو تمكنا يوما من الاستغناء عن الطيارين كلية؟
يبدو أن التقنية اللازمة للوصول إلى الطيران بهذه الطريقة أصبحت متوفرة، فالطائرة بدون طيار ليست اختراعاً جديداً. والجيوش تستخدم طائرات كهذه بحجم الطائرات العادية في ساحة القتال، وتتحكم بها عن بعد.
حتى الطائرة المروحية يمكن أن تكون بلا طيار، مثل طراز “ك-ماكس”، التي يصل حجمها إلى حجم المروحية العادية، وبإمكانها نقل المؤن والإمدادات وتوصيلها بدقة مذهلة إلى مناطق خطيرة.
يقول تيم روبنسون، رئيس تحرير مجلة الجمعية الملكية للملاحة الجوية، إن حوادث الطيران نادرة الحدوث هذه الأيام، لكن عندما تقع يكون من الصعب تفسيرها.
وهذا هو سبب تركيز التحقيقات غالباً على “العامل البشري”، وإرجاع أسباب الحوادث إلى عوامل نفسية أو جسدية.
ويضيف روبنسون: “مع اعتماد الطيارين على وضعية الطيران الآلي (المعروفة باسم أوتوبايلوت) في 95 في المئة من الرحلات الجوية هذه الأيام، فإن الجدل يدور حول السؤال: لماذا لا نجعل الخمسة في المئة المتبقية، أي عمليات الهبوط والإقلاع آلية كذلك؟”
ويضيف: “تقود أجهزة الكمبيوتر الطائرة بدقة متناهية في مسارات متكررة، ولا تقود الطائرة وهي ثملة، ولا يصيبها النعاس، ولا يتشتت تركيزها، لذا فقد تكون أكثر أماناً من الملاحين الآدميين في المستقبل”.
ويضيف أنه في نقاش جرى في جمعيته في وقت مبكر من هذا العام مع طيارين ومهندسين وعلماء وممثلين عن شركات طيران عن موضوع الطائرات البشرية ذاتية القيادة، كان هناك تصويت على أنه لن يكون هناك حاجة إلى الطيارين خلال 40 عاماً بنسبة 60 صوتاً مقابل 40.
وفي المعرض الألكتروني في لاس فيغاس في يناير/كانون الثاني الماضي، كشفت شركة إيهانغ الصينية النقاب عن أول طائرة للركاب بدون طيار، “إيهانغ 184″، والتي تعمل بالطاقة الكهربائية.
أجرت طائرة مروحية من طراز “ك-ماكس” تجارب للطيران من دون طيار في قمرة القيادة
وتتسع هذه الطائرة لشخص واحد مع حقيبة ظهر، وهي مكيفة الهواء وتوجد بها إضاءة. ولكي تحلق، يحتاج المسافر إلى تحديد مقصده النهائي، وأن يضغط على كلمة “إقلاع” و “هبوط” باستخدام لوحة الكترونية، ومن ثم يقوم الكمبيوتر بأداء بقية المهام. وتحتاج الطائرة إلى مساحة سيارة صغيرة في حالة طي محركاتها.
وهناك جهود أخرى محدودة لتطوير أنظمة تحليق جوي شخصية. ففي الولايات المتحدة، جرى العام الماضي اختبار طائرة تجريبية بمحركي إقلاع ومقعدين للركاب ومقعدين في قمرة القيادة.
وقد صممت هذه الطائرة شركة “أورورا” لعلوم الطيران، وأطلقت عليها اسم “سينتوار”. ويمكن تشغيل الطائرة عن طريق طيار في قمرة القيادة أو من الأرض، وأثناء التجربة، حلقت الطائرة دون أن يكون أحد على متنها.
وتعمل مجموعة إيرباص على تطوير “السيارة الطائرة” للركاب أو الشحن. وفي ألمانيا يأمل مشروع “فولوكابتر” أن يصنع طائرة كبيرة بدون طيار يمكنها حمل شخص أو شخصين.
وفي جهد أوروبي آخر، تقوم شركة “مايكابتر” بتطوير التقنيات التي يمكن أن تحول التنقل الشخصي إلى الجو. ولا يزال الباحثون الذين شاركوا في المشروع من معهد “ماكس بلانك” للتحكم الحيوي الآلي في توبينغون، يحاولون معرفة كيف يمكن تسهيل التحكم في هذه الطائرات، كما يقول هينريك بولثوف، مدير المعهد والذي يضيف: “نسعى لجعل قيادة الطائرة المروحية بنفس سهولة قيادة السيارة، مع قليل من التدريب”.
وفي بريطانيا، تعكف مجموعة من الشركات الخاصة والحكومية تطلق على نفسها “أسترايا” على بذل جهود مشابهة. ففي عام 2013 تلقت تلك المجموعة 62 مليون جنيه إسترليني للبحث في موضوع طائرات ركاب مدنية بدون طيار.
وكان الهدف هو “سبر أغوار التكنولوجيا التي يمكن أن نحتاجها، مثل الاستشعار، والتجنب، والاتصالات الآمنة وغيرها، لتحويل طائرات “يو إيه في” إلى طائرات مأهولة”، كما يقول روبنسون.
ولكن سواء كانت طائرات يُتحكم بها عن بعد، أو عن طريق كمبيوتر، وسواء كانت تحتاج إلى مسافر يضغط زراً للتشغيل أم طاقم أرضي يتحكم بها، يبقى سؤال جوهري واحد بلا إجابة هو: هل يمكن أن نشعر بطمأنينة إذا لم نشاهد طيارين بزيهما الأنيق في مقعد القيادة يخبرانا بهدوء عن أحوال الطقس أثناء هبوب عاصفة جوية؟
“يبدو أن الناس أكثر ارتياحاً بوجود قبطان يتحكم في الطائرة وعلى متنها” كما يقول ستيفن رايس، خبير الملاحة الجوية الذي عمل في السابق مع معهد فلوريدا للتكنولوجيا، ويعمل حالياً مع جامعة “إمبري-ريدل” للملاحة الجوية، والذي شارك عام 2014 في كتابة تقرير عن الطريقة التي ينظر بها الجمهور للطائرات المسيرة آلياً.
أجهزة الكمبيوتر لا تعاني من الإرهاق الذهني أو التوتر، أو يغلبها النعاس، كما يمكن أن يحدث مع الطيارين
ويضيف: “يميل الناس إلى الرأي القائل إن وجودك في المركبة عند التحكم بها أسهل من التحكم بها عن بعد. وغالبية الذين قادوا طائرات أو سيارات بنظام التحكم عن بعد وجدوا الأمر صعباً”.
مع ذلك، لا يتردد أحد في دخول المصعد هذه الأيام، مع أنه قبل عشرات السنوات كان تشغيل المصعد يتطلب وجود مشغل يطلق عليه “عامل المصعد”. الشيء ذاته ينطبق على القطارات غير المأهولة والقطارات ذاتية القيادة.
“ويظهر ذلك أن المجتمع يشهد حالياً عملية تحول ذهنية فيما يتعلق بالسيارات ذاتية القيادة”، كما يقول روبنسون، الذي يضيف: “إذا نشأت في المستقبل في مجتمع تقود فيه السيارات نفسها، وتقوم فيه طائرات ‘يو إيه في’ بتوصيل الطرود، فهل ستكون طائرة الركاب التي تحلق ذاتيا مثاراً للدهشة؟”
يقول رايس إن الأمر يبدو محيراً هذه الأيام بالنسبة للناس أن يتقبلوا وجود طائرات ركاب بلا طيار؛ لأنه عندما تفقد القطارات أو السيارات نظام التسيير الذاتي فهي لا تتصادم، ولا تتحطم بالضرورة.
ويضيف: “عندما تتوقف محركات طائرة ما فإنها تسقط من السماء”. وبالطبع هناك الكثير من الناس يشعرون سلفاً بالتوتر من الطيران، بينما لا يشعر الكثير منا بالتوتر عندما يستقل سيارة أو قطاراً.
لكن أجهزة الكمبيوتر في المقابل لا تعاني من الإرهاق الذهني الذي يؤدي إلى حوادث، كما حدث مع أندريه لوبيتز، مساعد قبطان طائرة “جيرمان وينغز”، وأدى إلى ارتطام الطائرة بجبل في منطقة الألب الفرنسية عام 2015.
ويعتقد رايس أن الطائرات بلا طيار يمكن أن تمنع في المستقبل وقوع مثل هذه الحوادث، ويقول: “ليس افتراء على الطيارين البشريين، فلا يوجد طيار آلي يمكنه اليوم أن يهبط بالطائرة فوق نهر هادسون. لكن الآلة لا تتعب، ولا تتأثر عاطفياً، ولا يمكنها أن تسمح للإرهاق أن يؤثر على الأداء، ولا يمكن أن تتخذ قرارات خاطئة.”
ويتابع: “الآلة ببساطة تقوم بما يتم برمجتها عليه. لذا، فإنه على المدى البعيد، أعتقد أن الطائرات التي يقودها الكمبيوتر ستكون أكثر أماناً بشكل عام”.
ويضيف رايس أن وجود طيار عن بعد أو طيار آلي ليتحكم في قمرة القيادة كان يمكنه أن يمنع حادثة “جيرمان وينغز” الانتحارية. لقد استغرقت الطائرة من 8 إلى 10 دقائق لتهوي من 38000 قدم وتتحطم.
ويمضي قائلاً: “لو كانت هناك بروتوكولات يجري العمل وفقها، فقد كان هناك وقت كاف لبرنامج ‘إيه تي سي’ ليسمح بعزل الطيار البشري ويدع الطيار المسير عن بعد أو الطيار الآلي لتحويل وجهة الطائرة إلى أقرب مطار”.
لكن لا يحظى هذا التحليل بموافقة الجميع. العالم مايكل كلامان، الباحث في مختبر البشر والتحكم الذاتي في جامعة ديوك في دارام بكارولينا الشمالية، يعتقد أن مستوى الأمان متساو في الحالتين.
أثار حادث سقوط طائرة من طراز “جيرمان وينغز”، في منطقة الألب الفرنسية عام 2015 أسئلة عن الأخطاء التي يمكن أن يرتكبها الطيارون
ويضيف كلامان: “صحيح أن هناك حالات نادرة لطيارين تعمدوا تحطيم طائراتهم (أو ارتكبوا أخطاء فادحة)، لكن هناك أيضاً أمثلة أخرى منعوا فيها وقوع كوارث من خلال ابتكار حلول خلاقة”.
ويقول محذراً إن التحكم بالطائرة من الأرض ليس أمراً سهلاً، ويضيف: “الجلوس في قمرة القيادة واستقاء المعلومات من خلال النافذة، ومن خلال الشاشات، وأزرار التحكم، يحول دون الشعور بالحركة الانسيابية للطائرة، كل ذلك مختلف تماماً عن ممارسة الطيران من خلال برامج الكترونية”.
ويتابع: “وبينما يمكن استبدال التكنولوجيا الحديثة بأزرار، وأدوات التحكم بالطائرة، إلا أن الشعور بالحضور وإعطاء فريق التحكم الأرضي مجالاً لمعرفة المعلومات من قمرة القيادة بنسبة 100 في المئة يعتبر مشكلة أكثر صعوبة”.
ويعتقد روبنسون أن الخطوة الأولى في إحلال الكمبيوتر محل الإنسان كقائد للطائرة هو أن يتم ذلك بالتدريج.
على سبيل المثال، هناك مشروع أوروبي لدراسة مستقبل هياكل الطائرات المدنية يسمى “أكروس” يبحث إمكانية تقليص عدد الطاقم إلى طيار واحد ليقوم بكل عمليات الملاحة الجوية.
قبل عشرين عاماً، كان المعيار السائد هو وجود ثلاثة طيارين في قمرة القيادة، أما الآن فالمعيار هو وجود طيارين اثنين فقط، كما يقول سكوت وينتر، الأستاذ المساعد في علوم الطيران في معهد فلوريدا للتكنولوجيا، ويضيف: “أعتقد أنه بمرور الوقت سيثق المعنيون بهذه التكنولوجيا أكثر فأكثر”.
ويقترح هو ورايس تجريب ذلك في طائرات الشحن كبداية معقولة للبدء في استخدام الطائرات المسيرة آلياً، وجعلها محط ثقة كاملة، وفي الأثناء كسب ثقة الجمهور بفكرة عدم وجود طيار في طائرة الركاب.
وتقوم ناسا بالشيء ذاته، إذ تعتمد فكرتها المتعلقة بوجود طيار واحد يقوم بكافة عمليات الملاحة الجوية “أس بي أو”، على وجود مقعد واحد في قمرة القيادة للقبطان، ومقعد واحد على الأرض لمشغل بشري يقوم في بعض الأوقات بدور ضابط الاتصال، وأحياناً المسؤول الأول.
ويرتدي هذا المشغل الأرضي خوذة ضابط الاتصال عندما تقلع الطائرة بسلاسة، ويشرف على 12 طائرة وليس طائرة واحدة، ليكون بذلك عملياً ما تسميه ناسا ضابط الاتصال السوبر. وإذا واجهت إحدى الطائرات مشكلة أو صعوبة ما، يتحول هذا الشخص إلى المسؤول الأول عن تلك الرحلة الجوية تحديداً.
التحدي الحالي يكمن في القرصنة الالكترونية التي يمكن أن تتعرض لها طائرة ركاب بدون طيار
حتى لو نجحت هذه الفكرة، يتبقى هناك أمر واحد يدعو للقلق: القرصنة الالكترونية التي يمكن أن تتعرض لها الطائرة.
ينبغي أن تتوفر في الأنظمة الأرضية روابط معلومات آمنة، وأمن معلوماتي على مستوى عسكري كما يعتقد روبنسون. ويضيف كالامان أنه سيكون من الضروري لمنع الهجوم الالكتروني أن تكون هناك إجراءات لاستعادة السيطرة على الطائرة، وليس فقط إجراءات لمنع حدوث القرصنة.
ويقول روبنسون: “كإجراء دعم نهائي، ربما تحتاج طائرات ‘يو إيه في’ المدنية أن تعرف أنه عندما تتلقى تعليمات غريبة (على سبيل المثال، زيادة السرعة أو الهبوط في وسط مدينة) فإنها لا تستجيب حتى تتأكد من هذه المعلومات من شركة الخطوط الجوية التابعة لها، أو من مرشد بشري”.
ربما في غضون عدة عقود، قد ترتشف مشروبك في البهو الذي كان يوماً ما قمرة القيادة.
وحتى يأتي ذلك الزمن، كن دائماً على استعداد كامل للإنصات إلى تعليمات قائد الطائرة، وكن على علم أنه يرى من خلال نافذته المنظر الذي تراه أنت، مع فرق واحد فقط، وهو أنه لا يزال يجلس في أفضل مقعد في مقدمة الطائرة.
bbc