دخل والي الجزيرة، محمد طاهر إيلا، “فداسي” يوم (السبت)، بنيّة صادقة لتشييع ضحايا حادثة انفجار “تانكر نفط” أودى بحياة (50) من أبناء المنطقة، لكنه لم يخرج مخرج صدق –البتة- وإنما خرج تشيّعه اللعنات.
الطريق إلى الجحيم –عادة- مفروش بالنوايا الحسنة، هكذا قالوا، وهكذا أثبت أهالي المنطقة (الوسطية) المعروف عنهم الكرم والطيبة. فحين وصلهم الوالي وزمرته، أنزلوهم في محل حفاوة وتقدير، ولكن حين بدأ وزيره للصحة يعدد ما وفّروه من المعينات الصحية لمداواة جرحى الحادث، انفتحت بوابة الجحيم، وبات الوالي ووفده في محل رفع للهتافات الداوية (كذاب.. أطلع برة).
ومعلوم أنه لمّا تخرج انتقادات السياسي من الورق وتصل إلى الجماهير، تتحول عادة إلى سيطان مزلزلة للظهور، وقد يترتب عليها اختفاء السياسي من المشهد العام بالكلية. أما لو تجاوز الكبوة واستطاع مواجهة الجماهير ثانية، غير هيّاب باحتجاجاتهم، فإنه يكون وصل مرحلة (سياسي محصن ضد الهتاف).
يميناً ويساراً
ومن ذات سرادق، نصبه أهالي د. صلاح السنهوري، ليبكوا شبابه الذي زوى نتيجة رصاصة سرقت روحه في سبتمبر 2013م، أثناء الاحتجاجات التي انتظمت البلاد – حينها – ضد زياردة أسعار المحروقات، لقي القيادي بحزب المؤتمر الوطني، د. نافع علي نافع، معاملة قاسية من أهل منطقته بضاحية بري شرقي الخرطوم، إذ شيَّعوه وقتذاك بهتافات معادية، أجبرته على مغادرة العزاء مذموماً مدحوراً.
أما د. إبراهيم غندور، الذي يجمعه بنافع، درجة الدكتوراه، وسُكنى ضاحية بري، والعمل في موقع نائب رئيس الحزب الحاكم، فقد هتفت ضده الجماهير المعارضة أثناء اعتزامه إلقاء كلمة في ندوة داخل دار حزب الأمة بأم درمان. فحين هبّ غندور لمحادثة الحضور، استنكر الشباب تلك الحضرة، وطالبوا بحجبه، بل وتساءلوا عن كيف له أن يطأ هذا التراب أصلاً، فكان أن تجاوز النطاسي الموقف بعدما أصر على إلقاء كلمته، مستفيداً مما حازه من رضا بعض قادة الأحزاب، ذلك أن غندور يبدو ذا سيرة مشرقة، حينما يُقارن مع إخوته في المؤتمر الوطني.
وحتى لا يذهب ذاهب إلى كون الهتافات المعادية، أمراً حصرياً على الحكوميين دون أغيارهم، فقد نال الأمين العام لحزب المؤتمر الشعبي، الراحل د. حسن الترابي، كفله من الهتافات في احتفالات عودة زعيم حزب الأمة الصادق المهدي في (تهتدون). ومع أن جرح مفاصلة الإسلاميين كان يئز، فإن الأنصار بـ “حوش الخليفة” ما قبلوا وجود الترابي في الصفوف الأولى، ولا في الاحتفالية برمتها، فهتفوا مطالبين برحيله.
ومن ذات الكأس شرب القيادي بالاتحادي الأصل، عثمان عمر الشريف، جرعة وافرة من الهتاف المضاد في احتفالات الاتحاديين بأعياد الاستقلال بدار الخريجين، وذلك اعتراضاً على مشاركة (الأصل) في حكومة القاعدة العريضة. وإن من متغير في المشهد فقد تمثّل في مبادلة الشريف لمناوئيه ردوداً قاسية، قال فيها بجهاده وسبقه في الحركة الاتحادية.
مستقبل إيلا
إيلا الذي اعتاد أن تتراص الجماهير لاستقباله أينما حل، وحيثما نزل، مرتلة في آذانه (إيلا .. حديد)، سبق وأن تناست جماهير محلية “هيا” بولاية البحر الأحمر – هي الأخرى – أنه والي قُدَّ من حديد، وشيعوه بهتافات معادية أثناء زيارة له للمنطقة، فكان أن قطع خطابه، وغادر مغاضباً.
ولأن ذلك زمان ولى، فيها لنعرف كيف ستؤثر هتافات فداسي على مستقبل إيلا السياسي. نقول إنه يتوقع أن تدفع حادثة فداسي المناوئين للوالي، لإذكاء صوتهم المعارض على نهجه في حكم الجزيرة. ولا غرو أن يزيدوا في بورصة التهم الموجهة إليه واحدة، تراص إلى جانب قولهم باهتمامه برصف الطرقات لا نماء الإنسان، وبتأخره في غوث المتضررين من السيول، وندرة مشاركاته المجتمعية. وفي منحى سياسي مع تهم وقوفه وراء تشظي قادة حزب المؤتمر الوطني حياله بين مؤيد ومعارض. وعليه يأمل الساخطون في زيادة غلة المساوئ على أمل أن يقود ذلك كله في نهاية الأمر إلى إقالة إيلا. غير أن تياراً آخر يرى أن إيلا لم يكن هدفاً من الهتافات، وبالتالي لن تؤثر في موقفه السياسي والجماهري، ذلك أن الأفواه صدعت كرد فعل على حديث وزير الصحة.
نظرة أكاديمية
بقولبة السؤال الخاص من الحديث عن مستقبل إيلا، إلى مستقبل السياسي الذي تُطلق بحقه هتافات معادية، ذهبنا إلى طاولة أستاذ علم الاجتماع، مصعب عثمان، فقال إن على السياسي امتلاك ثقة تجعله –ابتداء- ممن يتقبلون النقد، ويتبعون أحسنه. وأضاف: إن زاد الأمر ووصل مرحلة الهتر، فعليه كذلك أن يقابله بشجاعة تنحو إلى امتصاص المسببات التي استدعت صريخ الناس، هذا وإلا زادت عند الناس النبرة، وزادت لدى السياسي العزلة.
أما المحلل السياسي د. معتصم أحمد الحاج، فقد ذهب إلى أن الهتافات المعادية هي انتهاز محمود بغية التعبير عن حالة قمعية، لطالما بحث مطلقو الهتاف عن مناسبة للتعبير عنها.
ونوه الحاج بأن الهتاف هو سلاح جماهيري للعزل السياسي، والمحاربة المجتمعية، على أمل أن يتبلور لاحقاً إلى أشكال أكبر. وقال إن الهتافات المضادة للسياسي سواء في الحكم أو في المعارضة، تستهدف من يمثلهم السياسي عادة، ولكنه شدد على أنها تعبير عن سبق وتقدم رجل الشارع السوداني العادي على نظيره السياسي، في التوق إلى التعبير الحر عن الرفض والممانعة بوسائل سلمية راقية.
الصيحة