يتجاهلون فساد البنوك ومافيا الدواء ويطعنون بخناجرهم فتاة عبرت عن مشاعرها

ضجت مواقع الإعلام الحديث.. وتقافزت صورة فتاة لم تبلغ سن التاسعة عشر من العمر تعانق مطرباً يكبرها ببضع سنوات في لحظة انفعال عاطفي وحبيباني يغيب فيها العقل.. وتأخذ العاطفة الشباب.. الفتاة طالبة في المرحلة الثانوية.. سبقتها للجامعة أختها الكبرى وفي تقاليد الجامعات منذ قديم الزمان يستقبل الطلاب بغالب ثقافة أهل البلاد.. يغني المغني.. ويطرب الحضور كرمزية لنجاح تحقق للطلاب والطالبات.. وتأتي الأسر كبيرها وصغيرها.. للجامعات التي تستقبل أبناء الفقراء وعامة الشعب.. أما خواص الشعب والطبقات الثرية والمترفون في المدينة فهؤلاء مقامهم غير.. وجامعاتهم أخرى ومدارسهم قصور لها حدائق غلبا.. وفاكهة وأبا.. ربما جاءت تلك الفتاة الصغيرة من أقاصي الريف الكردفاني.. ومن قريتها البعيدة.. وكانت تهيم حباً وعشقاً ويدغدغ إحساسها صوت المطرب الذي تفاجأت بوجوده يغني كفاحاً في خشبة المسرح.. هرعت إليه لتعانقه.. عناق إعجاب لا عناق شهوات، فالشهوات تمارس من وراء حجاب عن عيون البشر.. ولكن حراس القيم الأخلاقية في وطننا الذي توطنت فيه كل الموبقات الاجتماعية يريدون إخراج سكاكينهم من غمدها.. وجز عنق الفتاة التي من حسن حظها أن المصور البارع الفنان الذي جاء بمعجزة التصوير الرقمي عبر الهاتف الذكي لم يلتقط تعابير وجهها وتفاصيل عينيها ومفردات رموشها وإلا كانت أسرة الفتاة اليوم في وضع مثل حال الراعي البدوي التشادي في إحدى المسرحيات التي قدمت في مهرجان البقعة عام 2011م، بأم درمان ضمن أسبوع الصداقة السودانية التشادية.. ولما كان السفير “خالد موسى”، من نوابغ وأذكياء بلادنا قد أورد في كتابه مقالات في ضرام الثقافة وأضابير السيرة الذاتية وتأويلات السياسة يعنون سيرة الترحال عبر الأطلنطي وهي إشارة إلى وجوده الحسي في الولايات المتحدة الأمريكية ورحلة الانتقال من نيالا إلى بلاد نساؤها غير ، ولأن “الطيب صالح” رحمة الله عليه كان ثرياً في لغته غنياً في معارفه التراثية، قال ما قال على لسان (مريود) ، وحينما حط طائر السفير “خالد موسى” في أرض أنجبت “أرنست همنغواي” وخرج من صلبها “جورج كنيدي” واليوم “ترامب”.. كتب عن المسرحية التي قدمتها الفرقة التشادية وكيف أن (العسكر) يتصلبطون في عامة الناس.. بدعوى الحفاظ على قيم البلاد وقدسية رمزيتها.. والمخرج التشادي “عبد الله عبد الكريم” استطاع ببراعة فنان تصوير المشهد التراجيدي الذي لم ينتبه إليه الكثيرون مع أن الجمهور أذكى من الممثل حيث دار حوار معبر باللهجة التشادية المحلية المفعمة بالحركات وامتدت الأصوات المتفجرة والمهموسة للتعبير عن دلالة الفعل والموقف، دار الحوار بين البدوي الرعوي وعسكري في السلطة.. سأل العسكري العربي البدوي وهو يشير إلى علم الدولة الذي يرفرف عالياً في السماء، ما هذا فقال البدوي البقاري (هذا جنقور ساكت) أي هذه خرقة بالية لا يؤبه لها فغضب العسكري طبعاً غضباً مصنوعاً مثل النائحة الأجيرة لا النائحة الثكلى، وفي بلادنا الآن هناك نائحات يدفع لهن للعويل والبكاء، وذكر محاسن الموتى في مأتم بعض طبقات المجتمع بعد تلقينهن اسم الميت وأسماء أحفاده وبناته وأولاده للبحث عن محاسن يرددنها أولئك النسوة البائسات.
المهم العسكري غضب وسأل البدوي مرة أخرى (قلت شنو) ولم يجد البدوي غير إجابته السابقة (يا أخي دا جنقور ساكت) هنا انتفض العسكري في غضب وقرر العسكري تغريم البدوي (20) بقرة تدفع للدولة التي أهينت كرامتها، وهذا ما يعرف في الذهنية الشعبية (بالبلبصة) أو (الصلبتة) أي أن يتعلق صاحب الغرض بأسباب واهية لفرض أحكام معدة سلفاً ابتغاء مغنم أو اتقاء لمغرم.. والذين حملوا سيوفهم على أكتافهم من رجالات الواتساب طوال أسبوع بحثاً عن وجه الفتاة التي عانقت المطرب لينهالوا عليها رجماً حتى تسيل دماؤها.. لم يعجزهم (حبك) روايات لاصطياد أفيال آخرى بالادعاء أن مدير جامعة كردفان بروفيسور “عجب الدور” ووكيل الجامعة د.”عبد الرحمن الشريف” قد أصدر قراراً من الجامعة بفصل الطالبة التي عانقت المطرب في ليل طربت فيه الجامعة على ألحان والمطرب يردد القديم من أغنيات الراحل “عثمان الشفيع”
في الشاطئ يا حبان ساهرتو بينا
في الوادي يا حبان ساهرتو بينا
عند النهر والنور الساقية بيننا تدور
والقمري بحاكي الحور وبراي أنا الفنان
الموج يداعبنا والحب يقربنا
الشادي يطربنا بالعود ومعاه كمان..
والفن والطرب والغناء في بلدي يغسل دواخل شعبها المحزون، لكن أدعياء حراسة الأخلاق ممن تيبست عواطفهم.. وتحجرت قلوبهم وغشاها الكدر والجفاف ينصبون محاكم التفتيش الأخلاقي لفتاة فاضت مشاعرها نحو مطرب وعانقته أمام الجمهور تعبيراً عن تقديرها للفن الذي ينثره في مخيلة المتلقي.. ولكن بوليس الأخلاق..؟ يتربص بها مثل العسكري الذي سأل القروي عن علم الدولة.. الذي في ذهنه إنها (جنقور) أو خرقة بالية.
والأبيض في سنوات النصف الأول من تسعينيات القرن الماضي.. أنتدب إليها عسكري من المختصين في علم البحار والبحرية.. ليجدف في الرمال الذهبية.. والجبال الزرقاء وحينها كانت كردفان إقليماً موحداً.. حشد الحاكم المواطنين من القرى البعيدة والأصقاع النائية من أجل إثبات ولاء الحاكم للرئيس وللإنقاذ.. ولم يجد الحاكم إنجازاً يسحر عقول الجماهير التي جاءت من الريف إلا نافورة تم غرسها في ميدان الحرية بالقرب من إستاد الأبيض.. في المساء تدفقت شلالات الماء في بلد ومدينة حرمتها قلة المياه من نظافة ثيابها رغم أن هناك مقولة تتردد عن (الكردافة الناس القيافة).
كانت نوافير الحاكم الحسيني مياهاً بيضاء وأخرى خضراء وثالثة حمراء وقفت بدوية وهي تضع يدها على خصرها.. مشدودة لذلك المنظر الذي لم تكتحل به عيناها من قبل، وقالت لصاحبتها!! عائشة تعالي شوفي العصير.. ظناً منها أن لون المياه الحمراء هي عصير (روزانا) الذي ينتشر في القرى والبدو.. ولكن امرأة ريفية ثالثة قالت (أسكتي شغلات الحكومة ديل ما بنعرفن).
إنهم السمر الذين يتغنون في خلواتهم لعمق جذور العزة فوق الطين..
وما هماهو ساعة الرحلة للمجهول
منو السلم صغارو الغول
وكان اتفشة لم يتأمل العيش الملا القندول
في يوم (الخميس) الماضي صعدنا طائرة (نوفا) المتجهة لمدينة الأبيض شاءت الأقدار أن تجمعني بالبروفيسور “عجب الدور” الطبيب الشهير.. والأستاذ الجامعي الذي في كل يوم ترفعه المواقع تواضعاً.. وما بين ذكريات نثرها شاب ترك السلطة واتجه إلى العمل كدحاً بعلمه وحصاد دراسته للهندسة، وبعد أن استغنت الحكومة عن خدمات “معاوية المنا” اتجه لسد مروي ليعمل موظفاً يعيش على عرق الجبين بدلاً من العيش بطرف اللسان.. سألت البروفيسور “عجب الدور” الذي حجز مقعداً ضمن مقاعد الدرجة الأولى.. ولكن الطائرة مثل بص الوالي يتساوى الركاب في نوعية المقعد وتختلف الخدمات المقدمة.. للناس الفوق.. والناس التحت!! هل حقاً تم فصل الطالبة التي عانقت المطرب.. قال بروفيسور “عجب الدور” مدير جامعة كردفان هي ليست طالبة في الجامعة.
تفاجأت مثل غيري بسيل من الرسائل من زملاء دراسة وأطباء بعضهم في المهاجر البعيدة عقدت الدهشة ألسنتهم كيف تفصل طالبة لأنها عبرت عن مشاعرها بطريقة تراها تليق بها.. وهي ليست طالبة بالجامعة كانت ضيفة عابرة تدرس في الثانوية.. لو كانت طالبة بالجامعة لن تفعلها إلا بموجب لائحة وقانون، ونحن لا نفسر مشاعر الناس ونواياهم.. بالشر ولسنا بوليس أخلاق.. في الدولة نفتش في ضمائر الناس ونحاكم عواطف الطلاب.. كان بروفيسور “عجب الدور” كبيراً وشامخاً.. وعالماً وواثقاً من نفسه.. لكن الذين شغلهم بنطلون “لبنى” في الخرطوم منحوها ساعات في قبضة النظام العام وسنوات في بلاد نهر الرون لاجئة سياسية تعرضت في وطنها للاضطهاد كما يزعمون.. وفي كل عام يهرع وزير العدل ورهط من المستشارين وعشرات الموظفين إلى “جنيف” للدفاع عن حقوق الإنسان في السودان.. يفسرون قانون النظام العام ويرافعون عن إغلاق الصحف ووقف الكتاب عن ممارسة المهنة.. وهؤلاء ينظرون للقرارات الحكومية بأنها منزلة من السماء والاعتراض عليها يمثل اعتراضاً على رسالة السماء.
(2)
الغناء والطرب في بلادي إذا أصبح محروساً بشرطة النظام العام.. والتعبير عن خلجات النفس خاضعاً لقانون المحليات.. فإن فصلاً آخر من الشطط يعود بعد أن تعافت بلادنا نسبياً من آثار التركية الحديثة والطالبانية المستحدثة، وقد حاولت بعض المجموعات (المتصلبطة) والبلباصين.. طمس معالم تراث “أبو صلاح” و”البنا” و”سيد عبد العزيز” و”عبيد عبد الرحمن” و”محمد بشير عتيق” بالتجديف باسم الدين والمشروع الحضاري.. وصيانة الأخلاق والحض على الفضائل بالتعدي على الفن مثلما تعدى الواتسابيون على فتاة الأبيض الأسبوع الماضي ونهشوا عظمها وأكلوها لحمها.. هؤلاء دعاة التشدد في الدين الذين يشيحون بوجوههم عن حقائق الواقع الأليم ويكتمون شهادتهم وبعيونهم يبصرون الفساد في الأرض، قد نخر عظم الشعب المسكين.. والذين أتمنوا على دولارات الدولة فتسربت بين أيديهم لتجار ورأسمالية يحصدون ثماراً لا يزرعونها.. إذا كان بنك السودان يمنح الشركة (…) مبلغ (7) آلاف دولار لاستيراد الدواء بسعر الدولار ستة جنيهات.. قبل أن تخرج الدولارات من بنك السودان تلتهمها أفواه تنتظرها بسعر (15) جنيهاً للدولار.. ما بين المقرن والسوق العربي (3) كلم يحصد فيها التاجر ربحاً لن يجنيه مزارع الفول والبلح في تنقاسي لمدة (10) سنوات.. من يتحدث عن هؤلاء السماسرة ولماذا لا تكتب الأقلام عن الخطر الذي يداهم المجتمع والفساد الذي تتأثر به الحبلى بمستشفى الدايات.. وأيهما أعمق ضرراً من يأكل أموال الناس البسطاء بالباطل.. أم فتاة خانتها مشاعرها وقادتها نفسها البريئة لمعانقة من تحب جهراً، ولكن بيئة التشدد في الدين بيئة ينبع فيها النفاق وتتمدد فيها السلوكيات المنحرفة.. وتظلم الحركة الإسلامية في السودان نفسها حينما تحمل الناس على بغضهم لها
وحينما يزدهر النفاق في رحاب الدولة التي تحكمها.. وفي سنوات مضت حصدت الرصاصات أرواح الناس في المساجد.. وذهبت روح “خوجلي عثمان” بفعل ملتاثي العقل وخبثاء المذاهب.. وهؤلاء لا يرفعون أصواتهم منادين بوقف الحرب في المنطقتين ولا يسخرون مواهبهم في الكتابة لإرساء قواعد دولة الإسلام الصحيح، ولكنهم يحملون خناجرهم ليطعنوا في أخلاق فتاة جاءت ربما من حي الرديف في مدينة الأبيض الذي يقطنه قدامى العسكريين الذين كان (عماد) (الهجانة أم ريش أصل الديش) أو جاءت من حي الشويحات.. أو أمير القش وأمير الطين.. تلك أسماء لأحياء أصبحت اليوم مثل قاردن سيتي في الخرطوم تطاول بنيان الموظفين الحكوميين في فساد لا يحتاج لشهادة أو إثبات.. مثل المعلم الذي هجر الحبر والطبشور والكتب.. وأصبح من سكان حي راقٍ شرق الخرطوم تطاولت العمارة السامقة لثلاثة وأربعة طوابق وزادت عدد مبردات الهواء لعشرين مبرداً بينما لازال يحدث الناس عن ضرورة التثبت والتمحيص في إطلاق التهم على الأبرياء.. ويقول من يملك دليلاً علينا كقيادات طاهرة تقديمه لنيابة المال العام.. ولم تهتم المدينة كثيراً بحديث وزير العدل الذي بدلاً من تقديم الذين (بددوا) دولارات البلد الفقير من موظفي بنك السودان للعدالة.. تحدث عنهم.. في البرلمان.. والذين يهاجمون فتاة الأبيض التي فاضت مشاعرها جداول من الحب النظيف لمطرب شاب لم يكتبوا عنه حرفاً عن مديري مكاتب المسؤولين الذين ظهرت عليهم كل علامات الثراء وأصبح بعضهم يباهي بالمليارات التي في حساباته.. وقبل سنوات كان (يأكل العصيدة) عند “حمرة” التي طردها “مأمون حميدة” من جوار جامعته لأنها تنافس كافتيريات جامعته، أين الفساد.. وكيف هي الأخلاق.. ولماذا تطعنون في ظهر فتاة الأبيض.
{ جنوب السودان تحت الوصاية
في آخر فصول العجز الأمريكي والخيبة بشأن ما ينبغي فعله نحو دولة جنوب السودان التي أخذت في الانحدار إلى أسفل بسرعة متناهية، اقترح مجلس العلاقات الخارجية الأمريكية في تقرير صدر الأسبوع الماضي عن مركز الإجراءات الوقائية عن الوضع في جنوب السودان، إنشاء إدارة دولية انتقالية تتألف من الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي لإدارة جنوب السودان لمدة (10) سنوات على الأقل، وذلك لحماية أراضي تلك الدولة على حد زعم التقرير وتمكين المواطنين سياسياً. وأطلقت كاتبة التقرير على الفترة التي تخضع فيها دولة مستقلة لاستعمار جديد (بالاستدامة النظيفية)، وألمح التقرير إلى ضرورة المزج بين السياسة والقوة لفرض الاستقرار في دولة الجنوب.. مثل هذا التوجه على خطورته الشديدة على السلام العالمي في أفريقيا يكشف بوضوح شديد أن الجنوب أصبح مهدداً في وجوده، وأن هذا الشعب الذي فرضت عليه الولايات المتحدة توجهات بعينها وأغرته بالانفصال عن السودان يتعرض اليوم لمحنة حقيقية، وقد بات مهدداً في وجوده.. وإذا تم فرض وصاية على هذه الدولة فإن السودان أول المتأثرين بذلك.. مما يستدعي مناهضة ومقاومة أية محاولة لإعادة استعمار جنوب السودان ووضعه تحت الوصاية الدولية. وإذا كانت حكومة “سلفاكير” قد تنكرت للسودانيين الشماليين واحتضنت المعارضين، فإن المواطنين السودانيين من أجل إخوتهم في ملكال وتوريت وجوبا وواو سيقاتلون إلى صفهم، وليت خارجية السودان اتخذت مواقف مبدئية وأخلاقية ورفضت مثل هذه التوجهات بدلاً من منهج الشماتة الذي درجت عليه العقلية الشمالية الحاكمة.. وأحرار الجنوب الذين قاتلوا من أجل حرية بلادهم لن تنحني هاماتهم للاستعمار الجديد ولهم الحق في الدفاع عن وطنهم حتى لا يعود الاستعمار الأبيض مرة أخرى بعد أن خرج عام 1956م.

المجهر السياسي

Exit mobile version