ما تزال حالة الشد والجذب بين الخرطوم وجوبا تحول دون تطوير العلاقات بين الدولتين والانتقال بها من محطة تبادل الاتهامات والحرب الباردة إلى تبادل المنافع والمصالح المشتركة، انطلاقًا من تجربة الشراكة السياسية التي أفرزتها اتفاقية السلام الشامل “نيفاشا” والتي امتدت خمس سنوات، قبل أن يختار الجنوبيون الانفصال.
عراقيل ممتدة
الشاهد أن العلاقة بين الدولتين ظلت في محل ريبة وشك كبيرين، ويكفي هنا أن نشير إلى أن الرئيس البشير أطلق قبل أسابيع من الآن تصريحاً تحذيرياً في وجه حكومة الرئيس سلفاكير، وذلك حينما أمهل الدولة حتى ديسمبر من العام الجاري، لتختار بين الطبيع الكامل وطرد الحركات المسلحة من أراضيها أو الاستعداد لحرب طويلة المدى. بل إن البشير مضى إلى أبعد من ذلك حينما قال ” أمام الجنوبيين أيام لتوفيق أوضاعهم وبعدها سنقوم بجرد الحساب والحشاش يملا شبكتوا”. الأمر الذي اعتبره مراقبون بمثابة تهديد مبطن من قبل الخرطوم، وهو التهديد الذي ظل ماثلاً منذ ذلك الوقت، وربما سيظل كذلك ما لم تنفذ “جوبا” ما تعهدت به من قبل بخصوص طرد قيادات الحركات المسلحة من أراضيها وبالتحديد الحركة الشعبية “قطاع الشمال”، حيث وضعت جوبا سقفاً زمنياً خلال زيارة نائب الرئيس الجنوبي تعبان دينق للخرطوم في فترة لا تتجاوز ” 21″ يوماً بطرد المجموعات الخارجة عن القانون على حد وصف الخرطوم. اللافت أن الرئيس البشير قام برفع الكرت الأصفر في وجه حكومة “سلفاكير”، ودعاها للإيفاء بما تعهدت به، بل مضى إلى أبعد من ذلك حين قام بتخييرها بين التطبيع الشامل أو الحرب، بحلول العام المقبل.
مرافعة ثابتة
وبالمقابل، ظلت جوبا تتمسك ببراءة موقفها وتقول إنه لا توجد علاقة بينها وبين المجموعات المعارضة لحكومة الرئيس البشير بل وتذهب إلى أبعد من ذلك وتؤكد أنها على استعداد تام للتعاون مع السودان بغرض تحقيق مصالح البلدين. وهنا ظلت تظهر نظرية المصلحة المتبادلة ذلك أن جنوب السودان كان يستورد من السودان ما يقارب “72” سلعة غذائية يتم إيصالها عن طريق الحدود بين الدولتين، قبل أن تسوء الحالة الأمنية على الحدود. وهو ما دعا وزير الدفاع بدولة جنوب السودان كول ميانق لينادي بضرورة أن يتم فتح الحدود وترسيمها وتجاوز كافة المعوقات التي تحول دون تنفيذ اتفاقيات التعاون المشترك بين الخرطوم – جوبا. وهو الأمر الذي ظل يرد الوزير – غير مرة – خلال اجتماعات اللجنة الأمنية السياسية المشتركة وآخرها ما جرى بالخرطوم في يوليو الماضي، الأمر الذي تمخض عنه ما يعرف بإعلان الخرطوم القاضي بتشكيل لجنة للوقوف على نقاط ترسيم الحدود ومباشرة فتحها.
لقاءات رئاسية
ويلاحظ المراقب لعلاقة البلدين أن الرئيسين البشير وسلفاكير لم يقم أي منهما بزيارة الآخر في بلده طوال العام 2016 حيث انحصرت جميع لقاءاتهما على هامش قمم أفريقية، بل إن غالبية تلك اللقاءات لم تتجاوز مرحلة تبادل “التحايا” والتفاكر في الشأن العام بين البلدين دون التطرق لأمهات القضايا وخاصة التي تشكل هاجساً ومحور خلاف بين السودان وجنوب السودان. وفي هذا فقد كانت آخر زيارة لـ”سلفا كير” للخرطوم في نهايات العام 2015م، وقتها استبشر المراقبون بحدوث اختراق من شأنه أن يُحدث تحولاً كبيراً بحكم العلاقة الاجتماعية والأزلية التي تجمع شعبي البلدين. وهنا يقول المحلل السياسي وأستاذ العلوم السياسية بجامعة إسماعيل الأزهري د. بهاء الدين مكاوي إن جميع اللقاءات الرسمية وغير الرسمية لم تتمكن من تجسير هوة الخلاف وإنهاء تبادل الاتهامات بين السودان وجنوب السودان، عازيًا ذلك إلى انعدام عامل الثقة وصعود لغة الشك والظن بأن كل دولة تحيك لأخرى الدسائس والمؤامرات وتسعى إلى إضعاف الأخرى، وقال مكاوي لـ(الصيحة) إن هذا الأمر عوّق العلاقة الطبيعية التي كان يتوجب أن تقوم بين الطرفين بحكم التفاصيل التاريخية الموجودة على مستوى الشعبين.
شرط اليانكي
ثمة تغييرات طرأت على المشهد السياسي شمالاً وجنوباً، تمثل في أن الخرطوم دخلت في حوار مباشر مع واشنطن، بلغ مراحل متقدمة في سبتمبر الماضي، ما جعل إدارة أوباما تمنح الحكومة السودانية فرصة لرفع العقوبات، واشترطت عليها أن تلعب دوراً أكبر في تسوية النزاع الجنوبي وإنهاء الحرب بدولة جنوب السودان، بحكم الأبعاد الجغرافية والعلاقات الاجتماعية والسياسية بين الدولتين. وذلك بعدما تيقّن العالم وفقاً لتقارير المنظمات الدولية أن إعادة الاستقرار للدولة الوليدة رهيةن بأن تلعب الخرطوم دوراً محورياً وإيجابيًا في ذلك. لكن هذا الأمر يعوزه غياب الإدارة من الطرفين، حسبما يرى الدكتور حسن مكي، منوهًا في حديثه لـ(الصيحة) إلى أن حكومة جنوب السودان تفتقر إلى القدرة والإرادة السياسية، بخصوص تنفيذ تعهداتها بطرد الجبهة الثورية من أراضيها، وقال إن ذلك شرط لازم لكي تلعب الخرطوم دورًا إيجابياً في تسوية النزاع هناك. لافتاً إلى أن حكومة جنوب السودان لا تسيطر على كامل التراب في الدولة الوليدة، ومضى يقول: إن الحلم لا يزال يراود بعض العقول الجنوبية بأن الانفصال ما هو إلا أولى الخطوات في تحقيق مشروع السودان الجديد، وهو ما يجعل الارتباط بين المجموعات المسلحة السودانية وخاصة “قطاع الشمال” أمراً حتمياً ومبرراً سياسياً عندهم. غير أن مراقبين يرون أن ثمة تحولات حدثت في الموقف الجنوبي ربما تسهم في ردم الهوة بين الخرطوم وجوبا، أبرزها ما جرى على لسان نائب رئيس حكومة جنوب السودان تعبان دينق الذي قال إن الحركات المسلحة السودانية وافقت على ان تغادر جوبا، وهو ما لم يتم الكشف عنه قبل ذلك، وربما يقود – إذا خلصت النوايا – إلى بناء علاقة أخوية بين الدولتين. وغير هذا كله، فقد سبق أن وجه تعبان جميع حكام الولايات الجنوبية بطرد المعارضة السودانية من أراضيهم، مؤكداً أن حكومة جوبا لن تسهم في أي حرب أو أي تحركات قد تضر بالسودان كدولة جوار داعياً لإقامة علاقة متينة مع الخرطوم. وهو موقف يدعم الفرضية القائلة بأن الأرض تهتز تحت قدمي سلفاكير، لذلك مضى إلى التصالح مع الخرطوم، لوقف الزحف المسلح الرامي لإسقاط حكومته.
الصيحة