من نصدق؟، وزير العدل، الذي اتهم موظفين في بنك السودان وبعض المصارف التجارية، بعدم التحقق من صحة تسجيل شركات استولت على أموال طائلة، خصصها البنك المركزي لاستيراد الدواء من الخارج، أم البنك المركزي الذي نفى تورط موظفيه في القضية؟
* القضية التي يثور الجدل حولها لا تتعلق بفساد معتاد، ولا بمجرد التعدي على المال العام، اختلاساً أو تجنيباً أو تبديداً أو تأخيراً للتوريد.
* القضية الحالية تتعلق بممارسة آخر صيحات الجريمة، وأسوأ فنون الاحتيال والتزوير والرشوة، عبر شبكة منظمة، سرقت أموالاً طائلة، خصصتها الدولة لاستيراد أدوية، بعضها مصنف بأنه (منقذ للحياة).
* جريمة خطيرة وكبيرة ومنكرة، تستحق أن تتعامل معها وزارة العدل عبر نيابة (الجرائم الموجهة ضد الدولة)، إن لم تعتبرها واقعة (شروع في قتل) الآلاف، وربما الملايين، من أهل السودان.
* التجاوز الذي تم فيها لا يقبل التساهل، ولا يحتمل التعاطي معه بفقه التحلل، الذي سرى في جانب من القضية فعلياً، بتسويات مهينة، حوت تساهلاً غريباً، وصل حد الاكتفاء باستعادة بعض الأموال المنهوبة (بالتقسيط).
* تم ذلك بواسطة (لجنة تسوية)، قيل إنها ألزمت بعض الشركات المتورطة بدفع (30 %) من مبالغ التمويل المهدرة فوراً، مع السماح لها بتسديد الباقي (على قسطين).
* هل سمعتم بلصٍ تم إلزامه برد ما سرقه على دفعات؟
* ذلك أمر مؤلم، لا يقبله عقل، ولا يبرره منطق.
* من ينشل عشرة أو عشرين جنيهاً في حافلة مواصلات، ويضبط بجرمه، يُساق من فوره إلى السجن حبيساً، وبعض من زوروا ودلسوا وأغووا موظفي بنوك على خيانة الأمانة، واحتالوا على بنك السودان، ونهبوا ملايين الدولارات تركوا ليستمتعوا بأرباح سرقتهم، وأفلتوا من المحاكمة، وتم إلزامهم برد ما سرقوه (بالأقساط)!
* مالكم كيف تحكمون؟
* عندما أقدمت الدولة على رفع يدها عن الدواء، بررت قرارها الصادم بأنها اكتشفت (فجأة) أن الأموال المخصصة لدعم الأدوية تسربت إلى جهات لا تعمل في استيراد الدواء.
* ذلك يعني أن بعض من سمح لهم بالإفلات من المحاكمة، بتسويات منكرة، كانوا سبباً رئيساً في الكارثة التي حلت بملايين السودانيين في الأيام الماضية، فلمصلحة من تم التساهل معهم؟
* ما الذي يردع أولئك السفلة من مواصلة تعديهم على أموال المساكين، طالما أن الجهة المكلفة بحراسة الحق العام، تسمح لهم بالإفلات من المحاكمة، من دون أن تلزمهم بتوريد الأموال المنهوبة كاملة (مع أرباحها) إلى خزانة الدولة؟
* وزارة العدل تمثل حامي حمى الحق العام، وهي المكلفة بصيانة المال العام من التعدي، وبمنعه من التسرب، وملزمة بضبط من يسرقونه، ومنوطة بجلبهم إلى ساحات القضاء، لينالوا جزاءهم ويصبحوا عبرةً لمن يعتبر.
* التسويات التي تتم مع لصوص المال العام يجب أن تتوقف فوراً، لأن استمرارها يشجع آخرين على اقتفاء أثر من سبقوهم.. وما أكثرهم!!
* حتى بنك السودان، ينبغي أن يتعرض إلى عملية (نفض) شاملة، تبعد عنه كل من تساهلوا وفرطوا في متابعة وتدقيق أوجه صرف الأموال التي خصصتها الدولة لاستيراد الدواء، وضلت طريقها إلى جيوب لصوص لم يراعوا في أهلهم إلاً ولا ذمة.
* مجرد النفي لا يكفي، ومحاولة التنصل من وزر التفريط الذي أهدر مئات الملايين من الدولارات لن تبرر للبنك المركزي فشله في متابعة الأموال المنهوبة.
* توجد داخل البنك المركزي إدارة كاملة، اسمها (الإدارة العامة للرقابة المصرفية)، وتنحصر مهمتها في متابعة ومراجعة وتدقيق عمل المصارف التجارية، والتأكد من مدى التزامها بالقوانين التي تحكم العمل المصرفي، والتوجيهات الصادرة من البنك المركزي.
* لماذا لم يتابع مسؤولو تلك الإدارة مصارف مال الدواء، ليتأكدوا من أنها ذهبت إلى الغرض الذي خصصت لأجله؟
* ما الذي منع البنك المركزي من مراجعة أسماء (34) شركة وهمية، لهفت ملايين الدولارات، مع أنها لم تكن مسجلة لديه، ولا تمتلك سجلاً في مجلس الأدوية والسموم؟
* عندما كتبنا في هذه المساحة مطالبين ببدء التحقيق في قضية سرقة أموال الدواء من داخل بنك السودان، تلقينا رداً من إدارة الإعلام في البنك المركزي، نفت فيه مسؤولية البنك عن القضية، ورمت وزرها على البنوك التجارية التي تسلل عبرها لصوص الدواء، وكان ردها غير مقنع.
* كتبنا المقال المذكور تعليقاً على بيانٍ أصدرته شعبة مستوردي الأدوية، وحوى معلوماتٍ في غاية الخطورة، مفادها أن (32) شركة من بين الشركات الأربع والثلاثين المتهمة بالاستيلاء على دولارات الدواء، لا تعمل في مجال استيراد الأدوية، وغير معتمدة لدى المجلس القومي للأدوية والسموم، وليست مدرجة ضمن قائمة الشركات المودعة لدى بنك السودان.
* كيف ترك بنك السودان أكثر من (230) مليون دولار نهباً للسارقين، في دولة تعاني الأمرين من شح الصادرات، وتشكو خزائنها من قلة الدولارات؟
* كيف يتركها بلا حراسة ولا رقابة ولا متابعة، ثم يحاول أن ينفض عن نفسه تهمة التقصير؟
* قبل ذلك كله، كيف نقبل سماح وزارة العدل لبعض المتورطين في القضية بالإفلات من المحاكمة، ومنحهم ميزة رد ما سرقوه (بلا أرباح)، وبالتقسيط المريح؟
* الحق الخاص محمي بأهله، ومحروس بأصحابه، الذين يلاحقون من ينهبون حقوقهم، في سوح القضاء، ويتابعون التقاضي درجةً فدرجة، حتى يوصلوا قضاياهم غاية منتهاها، بالمحكمة العليا، أو طلب المراجعة.
* أما الحق العام فلا بواكي له، ولا يوجد من يغار عليه، ويثور لنهبه، ويحرص على مخاصمة سارقيه في ساحات القضاء!!
* قضية سرقة أموال الدواء لا موقع فيها للتحلل، فهل تسمعنا يا وزير العدل؟
مزمل ابوالقاسم – للعطر افتضاح
صحيفة اليوم التالي