في كل عام ما إن يغادرنا الخريف وتبدأ رياح أكتوبر في نشاطها من الشمال إلى الجنوب وتهل بشائر فصل الشتاء الذي يستعد فيه المزارعون لموسم جديد، ومع كل بداية يجدون أنفسهم في دوامة وموالٍ يسمى التمويل وتكلفة الإنتاج العالية مع بقاء حدوتة السعر التركيزي لمحصول القمح، ربما هذا جعل كثيراً من المزارعين يحجمون عن زراعة القمح واتجهوا لمحاصيل أخرى مثل الكبكبي والعدس نسبة لتكلفة الإنتاج الأقل والعائد المادي المجزي، فموسم العروة الشتوية في هذا العام تتهدده العديد من المخاطر خاصة في مشروع الجزيرة، وذلك بحسب ما نقله لنا مزارعون.
الكابوس القادم
الخبير الزراعي والاقتصادي مدثر وداعة الله عدد الإشكاليات التي تواجه المزارع في كل عام وإشكاليات الموسم الشتوي الحالي، وقال لـ(الصيحة) إن تلك الإشكالات تتمثل في إحجام الكثير من المزارعين عن زراعة القمح خاصة في ظل تعويم الجنيه وزيادة أسعار الدولار، وقال وداعة الله: إذا استمرت هذه المعضلات الاقتصادية والصعود الجنوني للدولار الذي تعقبه زيادة في كل شيء بما في ذلك تكلفة الإنتاج ومدخلاتها فإن هذا يعني أن الموسم الشتوي في كف عفريت، وقال إن المرحلة القادمة لن تكون سهلة على المواطنين خاصة مواطني الجزيرة وعموم أهل السودان، وقال وداعة الله: أتمنى التدخل العاجل للحكومة لتلافي ذهاب الموسم الشتوي أدراج الرياح خاصة القمح المنتج محلياً يسهم في تقليل استيراد الدقيق المكلف دولارياً، وشدد على أنه في حال لم تسارع الحكومة لحل مشكلة الموسم الشتوي، فإن سعر (الرغيفة) لن يكون أقل من جنيه.
مشاكل عديدة
أما المزارع “أمين الزبيرات”، أحد مزارعي قسم وادي شعير فيرى مشكلات الموسم الزراعي الشتوي تنحصر في عدد من النقاط، أهمها مشكلتا الري والتمويل وكيفية سداده؟ وقال لـ (الصيحة) إن الترع وقنوات الري ما زالت تغطيها الحشائش في معظم مكاتب الجزيرة، فالكراكات غير متوفرة وأضاف: نحن الآن في البداية الفعلية للزراعة، فالخامس عشر من نوفمبر هو الوقت الأمثل لزراعة القمح، ولكن مع الأسف ترعنا ما زالت كما هي تحتاح لـ(التكحيل) والنظافة، وكذلك الحفار الذي يشق (أبوعشرين)، غير متواجد والآن الموسم الزراعي في بدايته الحقيقية والتحضير كان من المفترض أن يكون من شهر سبتمبر لكن إدارة المشروع كعادتها تمارس المماطلة.
موازنات
أما التمويل الذي أصبح عقبة كؤوداً أمام الزراعة، فما زال الغموض يكتنف الموقف خاصة كيفية سداده. وهنا يقول المزارع “أمين” إن البنك لا يتعامل معنا بشفافية لكي نعرف ما لنا وما علينا.
أما المزارع الخير حمد، مزارع بالقسم الجنوبي لمشروع الجزيرة، فقال إن عمليات الري إذا سارت بصورة سلسة فهذا من شأنه أن يعزز فرص نجاح موسم العروة الشتوية، وأضاف لـ(الصيحة): إذا توفرت المياه سنحافظ عليها من الكسورات في الشوارع، ونتمنى أن تتوفر حسب الطلب، ولكن الخوف من العطش ربما يجعل الكثير من المزارعين يحجمون عن زراعته خاصة عبر التمويل من البنك الزراعي، فالمزارع يخشى ان يجد نفسه مطالباً بتسديد قيمة تكلفة إنتاج تسبب فيها العطش وعدم توفر مياه الري.
إغراءات
ويعود المزارع “أمين” مشيرًا إلى أن أكثر ما يتخوّف منه المزارعون هي كلمة السعر التركيزي لمحصول القمح والذي صرح أكثر من مسؤول ببقائه كما هو، تساءل أمين قائلاً: “كيف لي أن أزرع محصولاً لا يفي بتكاليف إنتاجه؟ وأضاف: هذا الأمر يجعلنا نحجم ونفكر في بدائل أخرى فأسعار محصول الكبكبي وصلت إلى 2600 جنيه فهو أمر مغرٍ يسيل له لعاب كل صاحب حواشة، فكل شيء في السوق يمضي بسرعة البرق، ولكن مع ذلك تريد منا الدولة أن نزرع مع بقاء السعر وكل تفاصيل حياتنا مرفوع عنها الدعم!
فهّمونا يا ناس
أما “الزين” المزارع بقسم الهدى بمشروع الجزيرة، فيقول: “أنا ما فاهم يعني شنو سعر تركيزي”، ومضى قائلاً: “لو كانوا قاصدين سعر القمح يفضل زي ما هو أنا ما بزرع قمح أحسن لي العدس”، وأردف: لماذا تشعرنا الدولة بأننا جسم غير مرغوب فيه، أو غير متاح له الحياة الكريمة والرغدة، فكل شيء يزيد سعره ونحاسب على تكلفة إنتاج تبعاً للدولار، فهذا الأمر له تفسير واحد هو أن الدولة تحاربنا وتعمل على إفقارنا.
خيار وفقوس
أماً المزارع “الخير” فيقول: إن الشيء الذي يجعل الكثير من المزارعين وخاصة الفقراء منهم يحجمون عن زراعة القمح، هو أن البنك الزراعي يتعامل مع أناس بعينهم، فالسماسرة والتجار وضعاف النفوس من الموظفين وجدوا ضالتهم في التمويل الزراعي، فتجد هناك من يأخذ مائة جوال من القمح، ومن السمادات بأنواعها ويبيعها في السوق السوداء، في حين أن المزارع البسيط المغلوب على أمره يقف بالساعات الطوال في الصف، وقد لا يجد ما وقف من أجله، ويأتي أصحاب العمم الكبيرة، ويأخذون حصصهم وحصص غيرهم، وحتى في السداد البنك يعمل بسياسة الخيار والفقوس، فالتجار وأصحاب المال لا يقف العسكري على أبوابهم، ولكن صغار وضعاف المزارعين يقبض عليهم مثل المجرمين ويساقون إلى الحبس.
مماطلة
ويأتي المزراع “أمين” مجدداً ليقول إن البنك في كثير من الاحيان يتلكأ ولا يوفر لك الاحتياجات والشيء الغريب – بحسب قوله – إن البنك قد يعطيك نظير تمويلك نقدًا ويحدد لك المسار لتاجر معين لتشتري منه بسعر السوق الأسود والذي قد يزيد بكثير عن الفاتورة المرصودة من قبل البنك، وهذا الأمر غير مفهوم، كيف استطاع التجار أن يوفروا مداخيل الإنتاج من أسمدة وتقاوى وعجز عنها البنك الذي يعد نفسه حامل لواء الزراعة في السودان، ومع ذلك يمارس الفشل كل عام.
مقارنات
وبخصوص الإدارة، فإن المزارع “الخير” يرى أنها الأفضل فهي ملتزمة بما تموله من أرض، وتعطيك في زمن مناسب فإن وجدت حلولاً لمشكلة الري فسيتجه جل المزارعين للتمويل من الإدارة وسيديرون ظهورهم للبنك خاصة في ظل العجز عن توفير حاصدات في الموسم السابق ما جعل رياح مارس تحصد قمحنا، وأضاف: هذا الأمر يجعل الكثيرين يتوجسون خيفة منه ويحجمون عن زراعة القمح عبره، وحتى الكثير من المزارعين الذين يزرعون على نفقتهم الخاصة لا يريدون زراعة القمح بل اتجهوا لزراعة محاصيل أخرى أكثر نفعًا ترفع من وضعهم الاقتصادي وبعدها سيشترون القمح بسعره التركيزي المزعوم.
الصيحة