لو أن أمطاراً هطلت بالولاية الشمالية لما شاهد العابر اليوم بتلك المناطق أثرا لمنزل قائم في قرية أو مدينة، ولكانت الأرض جرداء من أثر الحياة إلا من الأطلال وبقايا البناء القديم، هكذا وضع إبراهيم حجاز أحد الآلاف الذين هاجروا من الولاية الشمالية ملخصاً لما آل إليه حال الولاية التي صارت مدنها وقراها على حد سواء أطلالاً ينعق فيها البوم.
وبحسب نظرية إبراهيم حجاز أن عدم هطول الأمطار هو السبب الوحيد الذي جعل المباني في القرى والمدن تدل على وجود حياة بتلك الأصقاع، ولو تمت إزالتها، فإن مساحة الولاية برمتها تصير صحراء جردا من شرقها لغربها، المؤسف هو ليس المواطنون وحدهم من يبدون خوفهم من تلاشي أثار الحياة من الولاية الشمالية، بل جهاز الإحصاء السكاني نفسه أعلن مؤخرا أن الشمالية في طريقها لأن تفقد سكانها الذين وصل عددهم (837) ألف نسمة فقط، وهو عدد أقل بكثير من عدد سكان محلية أمبدة إحدى محليات ولاية الخرطوم السبع.
هجرة نهائية
لا يصدق البعض أن قرى بأكملها صارت خالية من السكان بمحليات الولاية الشمالية وبعض المدن، كذلك تركها سكانها خلفهم وحزموا أمتعتهم وضربوا في الأرض شرقا وغربا، كما حدث في مدينة الخندق التي يرجع تاريخها لحقبة التركية، إذ كانت مرفأ تهبط به السفن والقوافل من الشمال والجنوب، على حد وصف إبراهيم حجاز، ولكنها أصبحت اليوم خالية تماماً من السكان بعد مغادرة آخر أسرة لها، فتحولت مبانيها الشاهقة والجميلة إلى أطلال وأوكار ينعق فيها البوم، رغم ما يتوفر بها من إمكانيات اقتصادية كبيرة تجعل إمكانية العيش غير مستحيلة البتة، ويسترسل إبراهيم حجاز متحسراً على دنو نهاية وجود سكان بولايته. ويقول “العيب ليس في الأرض، فهي ليس بالسوء الذي يجعل العيش هناك مستحيل، ولكن العلة في الذين يتولون أمر إدارة الشأن العام، فهؤلاء لا يبذلون جهدهم لتعمير الأرض بتقديم الخدمات حتى يجد المواطن بصيص أمل يدفعه للتمسك بمسقط رأسه، إنما هؤلاء يجتهد من أجل أن يدفع المواطن لمغادرة منزله وأرضه، وأوضح مثال على ذلك هو ما قام به أمير الجداوي معتمد القولد تجاه أصحاب الساقية (92) بقرية أوربي الذين منعهم بحجج واهية عن زراعة أرضهم وفقاً لخطاب أرسله لهم في التاسع من أكتوبر الماضي”.
مستقبل مظلم
ليست قرى ومدن محلية القولد وحدها ما خلت من السكان، والحقيقية أن أراضي القولد أكثر المناطق خصوبة، وأن قراها كانت أكثر القرى والمدن اكتظاظاً بالسكان قبل هجرتهم اللاإرادية، ولكن هناك مناطق مختلفة بالشمالية أصيبت بذات الداء كما أصيبت القولد، فقرى بديار المحس والسكوت هجرها سكانها لضعف وانعدام الخدمات، فلا المدارس قائمة هنالك ولا المستشفيات ولا الأسواق عامرة ولا المشاريع الزراعية وصلتها الكهرباء، لهذا لا حل غير الهجرة والنزوح، بحسب فخر الدين مبارك، أحد سكان مدينة الخندق سابقا، هو بدوره توقع أن تخلو الشمالية من السكان تماما، وأن القرى والمدن القائمة الآن لا محالة سوف تندثر قريبا بحسب وصفه، وهذا عينه ما أشارت له سمية خالد مدير الإدارة العامة للتنسيق الإحصائي والعمل الميداني بالجهاز القومي للإحصاء، فهي أكدت في حديث صحفي أن الولاية الشمالية ظلت تمثل النسبة الأقل بين الولايات في الإحصاء السكان، وأن عدد مواطنيها دائما أقل من المليون نسمة، وهو عدد أقل من سكان محلية أمبدة، والرقم المتوقع أن ينحدر له تعداد سكان الشمالية، بحسب سمية خالد هو (837) ألف نسمة فقط.
بصيص أمل
سبب هجرة السكان الولاية الشمالية ليس لعلة في أرض الولاية التي تعد من أخصب الأراضي الزراعية والرعوية بالسودان، وأيضا لا لرغبة لدى السكان في الهجرة، فإنسان المنطقة محب لأرضه ومتمسك بها بصورة مذهلة، ولكن العلة في عدم تقديم الخدمات للناس وأهمها توصيل الكهرباء للمشاريع الزراعية والسواقي التي تمثل عصب حياة الناس كما يصفها التوم مجدي، وهو هاجر من قرية أوربي واستقر بالخرطوم، ويضيف التوم أن إنسان المنطقة يعتمد كليا على الزراعة، وحين عجز عن توفير مدخلات الزراعة وعلى رأسها الوقود، اضطر للهجرة، ولكنه حتما سوف يعود إذا تم توصيل الكهرباء للمشاريع وتوفير الخدمات الأخرى، وردا على عجز حكومة الولاية عن الإيفاء بمتطلبات الزراعة بالمنطقة، حاولت (اليوم التالي) الحصول على إجابة من وزير الزراعة بالولاية، ولكنه رفض الحديث والإشارة لقضية الأراضي الزراعية، لا من قريب ولا من بعيد.
القولد – محمد عبد الباقي
صحيفة اليوم التالي