في طريقي للمغادرة عبر مطار الخرطوم استوقفتني سيدة خمسينية وحيتني بحماس ومودة و(بالاسم)!
(وأنا لم أزل بعد لا أعي أن أحدهم قد يدرجني في قائمة المشاهير فأندهش لهكذا ترحاب!)
المهم.. “بعد ما فرحت شوية بالمطايبة والمديح”.. طلبت مني بانكسار وأدب “إني أشيل ليها معاي جردل جبنة وكمية من صناديق الباسطة صحبة راكب لي أخوها الحيكون منتظر في مطار الدوحة”!
وأسقط في يدي!.. “لأني ما بحب أشيل أكل في السفر ولا بحب أشيل حاجات في يدي غير شنطة اليد”.. لكن قبلت على مضض رغم نظرات زوجي التحذيرية التي حاولت الهروب منها.. احتمال من باب التعاطف والمجاملة.. أو لأنها أرضت غروري بكلمتين فأحرجتني.
غايتو اتوكلت وشلت الحاجات.. وسمعت كلمتين عتاب مصحوبات باستنكار وسؤال واضح عن مدى معرفتي بالسيدة وفحوى الجردل والصناديق؟!!
جادلت زوجي.. واستعنت عليه بأحاديث المروءة والتعاون والتراحم والإنسانية والعشم و.. و..!
(إتلتلت) بالحاجات (تلتلة عدوكم) وأنا غير معتادة.. وتعرضت لبعض (الهنضبة) والسخرية الخفية طوال الرحلة.. وشعرت بالخجل في كل مراحلها.. وبعد أن عبرت بوابة خروج مطار حمد الدولي كان علينا أن نهدر زمنا مقدرا في انتظار صاحب الأمانة على أمل أن يتعرف علينا أو يتصل في الرقم الذي أعطيناه للسيدة!
وبعد زمن طويل (ونقنقة) وشعور بغيض بالحرج والتوتر اتجه نحونا أحدهم من بني شرق آسيا وحيانا بعربيته (المبشتنة) وقال إنه سائق فلان صاحب الأمانه الفلانية!! وإنه ينتظره في السيارة وطلب منه الذهاب والبحث عن سيدة معها أربعة أطفال يرتدون جميعهم اللون الأحمر وإحداهن لها نظارة زرقاء!!
هكذا استدل علينا.. وأقسم أنني لم ألحظ في أي مرحلة من الرحلة أن أبنائي قد توافقوا مصادفة على لبس اللون الأحمر ولكن بتصميمات مختلفة!!!
سلمنا السائق الموقر الأمانة.. وتفرغت لسخرية زوجي العزيز بعد أن تبددت هاشمية النجومية التي اعتنقتها لساعات!
فلم تجد السيدة وصفا غير ذلك لتوصيفي.. (مكنة داليا الياس ما قسمت).. ولم يكلف الرجل نفسه عناء التحية والشكر.. والعين وقعت في العيال فلزمت (ليمار) الفراش بمجرد وصولنا المنزل.. وخمدت نيران المروءة بداخلي نسبيا لاسيما بعد قراءة تعليقات أصدقائي الأعزاء على بوست يحوي مقتطفات من هذه الواقعة لأستوضح عن سبب مخاوف زوجي والاحتمالات المخيفة لهكذا سلوك عشوائي.. ففوجئت بقصص وحكايات غريبة ومحزنة جميعها تعبر عن التغيير الذي حدث لبني وطني في ما يلي هكذا مواقف وبروايات مختلفة.
عموما.. تجدونني اليوم أحكي هذه الواقعة الشخصية التي تشبه ما حدث مع آخرين، وأعمد لاستخدام لغة بسيطة وتلقائية تتوافق مع حسن النية والبساطة التي تدفعنا للتعامل مع الآخرين في هكذا مواقف.. وأتمنى من كل قلبي أن نعود لما كنا عليه من جمال داخلي وتعاون وتقدير، بعيدا عن الاستغلال وكسر الخواطر وتعريض الغير لمشاكل كبيرة بسبب أنانيتنا ودوافعنا الشريرة.
هذه واقعة لطيفة ستظل في خاطري طويلا.. أرجو ألا تتأثر بها مروءتي جذريا.. وأنا أفضل حالا من سواي ممن حملهم مثل هكذا سلوك للتهلكة.. والحمد لله.
فقط أعاني من أنني قد حملت رسميا لقب (بتاعة الجبنة) الذي أصبح مستخدما في نداءاتنا العائلية داخل المنزل.
تلويح:
مثلما يدهشك البعض بسودانيتهم الخالصة.. يدهشك آخرون بافتقارهم لها.
داليا الياس – اندياح
صحيفة اليوم التالي