* تخيلوا أن يفتي وزير تربية وتعليم بأن التعليم في السن المتأخرة (10 سنين) أفضل من السن المبكرة (6 سنين)، رغم أن البحوث والدراسات والتجارب أثبتت بما لا يدع مجالاً للشك أن العكس تماماً هو الصحيح، وأن التعليم في سن مبكرة (قبل الثامنة) له نتائج أفضل على مستقبل الطفل، بشرط أن يُعطى الطفل فترة كافية للعب، فالأطفال يتعلمون بشكل أفضل ويكتسبون مهارات ومعرفة أفضل عن طريق اللعب والأنشطة القائمة على اللعب مثل الفنون والدراما والموسيقى، أو ما يعرف بـ(قوة اللعب) ..إلخ، وتعتبر الفترة بين سن (3 – 6 سنوات) هي الأفضل لتنمية واكتساب المهارات، والسبب في ذلك إن الفضول لدى الطفل يكون في أوجه في هذه السن !!
* صاحب الفتوى هو عبدالباسط سبدرات، الذي تولى مسؤولية وزارة التربية والتعليم في التسعينيات من القرن الماضي، وقال في المجلس الوطني خلال مناقشة قضايا التعليم العام إن جيلهم أفضل من الجيل الحالي لأنه دخل المدرسة في عمر 10 سنوات، ولا غرابة في حديثه، فهو الوزير الذي دمرت (الجبهة الإسلامية القومية) على يديه التعليم في السودان، بتعديل السلم التعليمى ليصبح 11 عاماً بدلاً عن 12، ودمج المرحلتين الإبتدائية والمتوسطة في مرحلة واحدة، بالإضافة الى تغيير المناهج لتصبح أكثر ضخامة وفقراً واعتماداً على الحفظ والتلقين، وإهمال المناشط تماماً، وانعدام التدريب للمعلمين، الأمر الذي أدى لتدني مستوى الطلاب، فضلاً عن بعض الافرازات الخطيرة مثل احتكار تلاميذ الفصول المتقدمة لكل شيء، وانتشار ظاهرتي التحرش والتسلط (BULLYING ) بشكل خرافي، بسبب المراحل العمرية المتباينة للاطفال !!
* وحاول سبدرات الدفاع عن نفسه ضد تهمة انهيار التعليم بسبب تغيير السلم التعليمي والمناهج إبان توليه شؤون التعليم في البلاد بإلقاء التهمة على مقررات (مؤتمر سياسات التعليم في السودان ) الذي انعقد في عام 1991، وهو دفاع فاشل، لأن من تولى تنفيذ الجريمة هو الوزير المسؤول، إلا إذا كان خيال مآتة، وحتى هذه لا تعفيه من التهمة !!
* وقال سبدرات إنه نظف المناهج من (الشحم والشخت)، ودليله على ذلك أنه استبدل منهج (طه القرشي ومحمود الكذاب، وحليمة بائعة اللبن، والفارس الشجاع) بالإنسان والكون .. !!
* تخيلوا هذا الفهم الغريب .. منهج الإنسان والكون (المعقد) هو الأفضل للأطفال من القصص البسيطة المسلية ذات الدلالات العميقة التي يمكن تحويلها بإمكانيات بسيطة جداً الى أعمال درامية يقوم بها الأطفال ويستمتعون بها ويتعلمون منها (حسب نظرية قوة اللعب)، وحتى لو لم يتم تحويلها الى أعمال درامية، فلقد صيغت بطريقة ذكية بحيث تكون الدراما جزءاً لا يتجزأ منها، وتظل عالقة بذهن من يقرأها طيلة حياته، أما الإنسان والكون فهو مادة يمكن أن يدرسها الطالب ضمن منهج الطبيعة أو الجغرافيا الفلكية، ويتوسع فيها إذا أراد في مراحل تعليمية تخصصية لاحقة، ولكن الجبهة الاسلامية أرادت أن تجعل منها منهجاً وتحشر فيه فكرها وترغم الأطفال على اعتناقه، ولكنها فشلت حتى في ذلك، فمعظم من درسوا هذا المنهج أو لا يزالوا يدرسونه هم الأشد معارضة لفكر الجبهة الإسلامية وانتهازيتها وفسادها!!
* من المؤسف أن يتحول العلم والعلوم الى وسيلة لتحقيق كسب سياسي وحزبي رخيص على حساب التعليم والمعرفة والإنسان، ولقد أخبرني أحد المعلمين أنه عندما احتج البعض لدى سبدرات على صعوبة فهم الأطفال لبعض السور في منهج التربية الإسلامية، مثل سورة (الطلاق) التي تُدرّس لتلاميذ السنة الثانية، أجاب إن المقصود بالمنهج ليس الأطفال، وإنما الأمهات والآباء الذين يضطرون لقراءته وحفظه عندما يذاكرون لأبنائهم .. هذا هو الفهم والمنهج الذي جاءت الجبهة لتنقذ به السودان، فنجحت بامتياز في تدميره !!
مناظير – زهير السراج
صحيفة الجريدة