من على البعد لمحت عم حسن ..ومعه فتح الرحمن ..وبينهما شاب لم أشاهده من قبل ..كان واضحا انه قادم من احد البلاد الغربية ..التي شيرت المزدحم باحرف لاتينية ..الشعر المربوط بي (باندة) ..عدد من الاساور الفضية تزين معصميه ..عندما اقتربت ..كانت اللكنة الخواجاتية ..رغم محاولاته الحديث بالدراجي السوداني …(انتي فين يا بنتي ..انا قلت البنت دي اغتربت هي كمان ولا ايه) ..عم حسن ..ولهجة الناطقين بغيرها التي تذكرني والدي رحمه الله ..ضحكت وانا اسلم عليهم (لا والله يا عمي ..بس نقلوني من المكتب هنا) .
..فتح الرحمن كان منهمكا في الحديث مع الخواجة السوداني ..ما فهمته انه ابن صاحب البيت الخالي الواقع بين قوسين (فيلا المستشار ..وفيلا نسابة فتح الرحمن)..كنت كلما مررت بالبيت..اتساءل ترى أين اصحابه؟؟ ولماذا يتركونه مهجورا مهملا هكذا؟؟ …الطريف انني قبل ايام ذكرته لصديقتي الباحثه عن مكان للايجار ..قلت لها مازحة (جنبنا بيت ما معروف سيده وين ..تعالي نكسر الطبلة وتقعدي فيهو لما يظهر ليهو صاحب)..قالت لي (غايتو عليك جنس محن) ..كانت حجتي قصة نجيب محفوظ (الحرافيش) ..الم يسكن الناجي ذلك القصر الخالي من اهله عندما رجع بعد الوباء؟؟ ..هل يعد سارقا لملك غيره ؟؟ ام كان له الفضل في اعمار المكان فقد صار اول الساكنين بعد انقشاع موجة الوباء ..اتى موطنه القديم فوجده اطلالا ينعق فيها البوم ..سكن داره ..لمدة قصيرة ثم راودته نفسه لسكن القصر الخالي …فصار كبير الحي وفتوته ..وحامي حماه ..
(ايه رأيك يا بنتي؟؟) ..عدت الى الواقع ..هاهو ابن صاحب المنزل يظهر ..ولا عزاء للناجي ولا لصديقتي ..قلت لعم حسن (معليش ما ركزت معاك ..قلت شنو؟؟) ..قال لي بلهجة جادة (قلت ليك اشتري البيت دا ..ابننا سامر جاي مخصوص يبيع البيت ويرجع بلده ما عندوش اجازة طويلة ..وبصراحة السعر ممتاز) ..غالبت الضحك وهو يذكر الرقم الخرافي الذي ذكره ..تذكرت قصتي مع استاذ الفاتح جبرا والكوميديان عوض شكسبير ايام عملنا في برنامج (الحاصل شنو) في رمضان الماضي ..كنا ..شكسبير وانا نتحدث ..عن الايجارات المرتفعة ..والمعاناة مع أصحاب الاملاك ..عندما تدخل الفاتح جبرا فجاة قائلا (انتوا يا ناهد وعوض ..ما تشتروا بيوت ..شنو كل يوم راحلين من بيت لي بيت)..فما كان من شكسبير الا ان قال بسخريته اللاذعة (تصدق كانت فايته علينا دي ..انتي يا ناهد ما تجي نشتري لينا بيوت).
اليس غريبا ..ان اصحاب البيوت لا يسكنون بها ..بينما يسكن هذه البلاد من لا يملك حق شراء منزل بها ؟؟ ..صاحب هذا المنزل حسب ما سمعت من عم حسن ..اغترب طوال عمره ليبني بيته هذا ..ولم يسكن به الا قليلا ..اتى في اخريات عمره مع زوجته ليقضيا نحبهما هنا ..ويأتي ابنهما الوحيد لتقبل العزاء ..ثم يعود الى تلك البلاد الباردة ..وهاهو اليوم يبيع كل ما يربطه بهذه البلاد ..لا استطيع ان ألومه ..ليس له ذكريات هنا ..لم يلعب في شوارع الحلة ..ولم يجلس تحت العمود مع شبابها ..اجد تفكيره عمليا يتناسب مع تنشئته ..وان جئنا للحق ..شخصيا أتفهم كل من اختار المهجر لحياته او حياة اطفاله ..كل من حسم امره واختار موطنا ..ولكني ارى شجرا يسير ..وكأن هذه البلاد ستصبح يوما ما ..كديار عاشور الناجي حين هجرها اهلها ..نسافر ونحن نمني النفس بالعودة ..يبني بعضهم منازلهم لهم ولأولادهم ..اذا بذريتهم تأتي فقط لتقبل العزاء.
..اسمع تسجيل الحاجة فريدة ..التي تملكها الغضب من تضجر الطفلة السودانية في الواتساب ..فتقول (انتوا يا سودانيين ..بعد مليار سنة مش حترجعوا للسودان؟؟)..لا يا صديقتي ..لا أحد يخطط للعودة ..كلهم حزموا امتعتهم للرحيل ..ان لم يكن هم ..فتاكدي ان ابناءهم لا يعرفون السودان الذي عنه تحدثت وقلت (السودان احسن بلد ..بلد النيلين ..بلد الخير.. بلد الزراعة ..بلد الدهب ) ..انهم يا صديقتي يرددون مع مسجل ادم رائعة الكابلي (خذوا دنياكم هذي ..فدنياواتنا كثر ).
د. ناهد قرناص