توقفت بعربتي أمام بيتي بالمنشية..كنت متعجلة لأن المستشفى استدعاني لمعاينة حالة عاجلة..إعتذرت لطارق بأنني لن أتغدى معهم، وأن الشغالة ستقوم بإعداد الطعام له والعيال..قبل ان أستدير إلى الوراء طبعت قبلة على خد ابني مروان الصغير الذي حاول أن يتمرد ويرفض مغادرة العربة..في (المرايا) رأيت شبحا من الماضي ..نهلة بت جيراننا في اللاماب .. توقفت قليلا لأتأكد من صدق تخميني.. نعم لم تتغير كثيراً ذات ملامح الجمال الهاديء..فقط تسربلت في عباءة سوداء على غير العادة ..فكرت في أن أتجاهلها لأن زمني لا يسمح.. بالفعل ضغطت على دواسة البنزين.. لكن العربة تحركت نحو الوراء لأَنِّي لم أغير موضع (التعشيقة).. العربة المندفعة للوراء أحدثت ضوضاء وأربكت نهلة ..مقدمات شكلة انتهت بمصافحة وقبل على الخدود.
هذه المهنة تجعلك عملياً بشكل مزعج.. جلست بجانبي نهلة وبدات أكثر اندهاشا من وضعي المادي ..تبادلنا الذكريات..لم تكن المعادلة في صالحنا..أحسست أن نهلة بدأت تتذكر أيام كنا فقراء ..رغم أننا جيران بالحيطة، إلا أن ذاك الحائط كان يفصل عالمين ..بيتنا طيني بلا كهرباء يمتليء بالأطفال ..فيما حالهم كان مختلفاً ..أسرة نهلة تتكون من بنتين وولد..والدها كان مفتشاً في مشروع الجزيرة..ترك خدمة الحكومة وافتتح متجراً صغيراً لبيع المبيدات والتقاوي ..ربحت التجارة وبات عم الطيب الريح من كبار التجار..تغير حاله ولكنه استمسك في العيش في هذا البيت الذي كان يتفاءل به كثيراً..حاول أكثر من مرة أن يغرى والدي العامل البسيط في مدرسة الحي ببيعه منزلنا.. كانت أمي تقف بالمرصاد لهذه المؤامرات..رغم الفارق كنا كأطفال لا نعترف بهذه الحدود المادية.
بدأت نهلة تحكي حظها السيء..تزوجت من أحد أقاربها ولكن الزيجة فشلت بعد عامين..لديها طفل واحد اختار أن يعيش مع والده المغترب في قطر..بدأت دموعها تنساب بكثرة على خدها الناعم، حينما اعترفت بأنها تنازلت عن ابنها حتى لا يعاني..ذاك البيت تم بيعه في المزاد لأن عادل شقيقها بعد وفاة الوالد لم يتمكن من مجاراة أحوال السوق ..سألتها “أين عادل “.. جاءت الإجابة تحمل ألما وحزنا “في سجن ام درمان بسبب ديون طائلة”.
انتهى الحديث حينما وصلت إلى المشفى.. حاولت أن أدس في يدها حزمة أوراق مالية ولكنني تراجعت..أحسست أن ذاك الحائط العالي مازال يفصل بيننا..قللت من حرجي حينما أخبرتني انها تبحث عن عمل..بسرعة أخبرتها أنني سأخبر زوجي طارق باعتباره محامياً معروفاً ويستطيع أن يدبر لها وظيفة مناسبة..تبادلنا اًرقام الهواتف على أمل أن نلتقي، لاحقاً.
منذ ذاك اليوم صارت نهلة صديقة ..تزورني من غير موعد مسبق..تراجع الدروس مع أطفالي ..تستخدم بعض ملابسي..رغم هذه الحميمية إلا أن ذاك الحائط الذي يفصل بين منزلينا مازال حاضراً..كان زوجي تحت إلحاحي قد رتب لها عملاً في إحدي الشركات الخاصة..من تلك الوظيفة تحسنت أحوال نهلة..كانت ترفض فكرة الزواج مجدداً..تقول إن تجربتها السابقة تجعلها تخاف من الرجال.
لاحظت زوجي يتحدث عن نهلة بشكل جيد..أخبرني انه عرض عليها رفع دعوى لاستعادة طفلها..كان كلما يتحدث معي عن صديقتي يرن جرس الهاتف حاملاً أمراً أو استشارة طبية..ثمن النجاح في مجال الطب تدفع ثمنه الأسرة..لم أكن أجد حرجاً في تكليف صديقتي نهلة بأن تعقبني في المنزل لتشرف مع الشغالة على إعداد وجبة غداء لأن طارق دعا زملاءه في بيتنا..حتى أبنائي تعلقوا بخالتو نهلة.
في ذات مساء وأنا في العيادة طرق هاتفي كثيراً..كانت الشغالة الاثيوبية تُلِّح في الاتصال..خفت على عيالي..أمسكت بالهاتف ..كانت الشغالة تبكي هي تصرخ في هيستريا ..من بين دموعها أدركت أن زوجي يخونني مع صديقتي نهلة..وقع الهاتف من يدي..وشمخ ذاك الحائط الفاصل في ذاكرتي ودخلت في نوبة بكاء .
اخر لحظة