سألت الطبيبة في المشفى الخاص أين النقالة..التفتت يميناً ويساراً لتعتذر بلطف لا توجد نقالة شاغرة.. كنت في ذاك اليوم برفقة شقيقي الذي جاء الى الطوارئ أثر حادث بسيط..لاحظت حتى العجلات الطبية عددها قليل جداً.. المتوافر منها تآكلت إطاراتها البلاستيكية وأصبحت تتحرك على الحديد.. كانت تلك جولة في مستشفى كبير وشبه حكومي، يتحمل المرضى تكاليف العلاج من جيوبهم الخاوية.
أفلح الدكتور مامون حميدة وزير الصحة بالخرطوم في انتهاج سياسة جعلت المراكز الصحية قريبة للمواطن.. ذاك كان الجزء الأول من فكرة ترقية الخدمة الطبية.. السيد الوزير اعترف البارحة بأن تدريب نواب الاختصاصيين غير كافٍ بيد أنه نقل لنا أخباراً جيدة حينما أكد أن خدمة التأمين الطبي شملت نحو ٦٧٪ من سكان ولاية الخرطوم.. لكن الامتيازات النسبية التي يتمتع بها سكان الخرطوم لا تتوفر في الولايات.. بالتالي باتت الخرطوم منطقة جذب لمرضى الولايات البعيدة والقريبة.
في الخرطوم ذاتها مثلاً المشافي العسكرية تخدم خدمة طبية جيدة، ولكن فقط لمنسوبيها.. أحد الأطباء الشباب من نواب الاختصاصيين أكد لي أنهم كأطباء يحلمون أن يقدموا لأنفسهم وأسرهم مثل هذه الخدمة.. هذا يعني أن الأطباء لا يستطيعوا أن يعالجوا أنفسهم وأسرهم بالشكل المطلوب.. سر نجاح هذه المشافي كان في توفير التمويل الكبير مع سياسة انضباط عالية للكادر البشري.
خلال زيارتنا لتركيا ضمن وفد صحفي كان حال مشافينا وإضراب أطبائنا حاضراً في ذهني.. سألت عدداً من الخبراء عن سبب تميز الخدمة الطبية في تركيا التي باتت تجذب بعض مرضى أوربا بسبب جودتها وقلة التكلفة.. الخطوة الأولى في التجربة التركية كان منح المشافي إستقلالية أكبر حتى تبدو وكأنها مؤسسات خاصة.. كما تم استخدام نظام بيانات فعال جداً.. المعلومات الطبية لأي مواطن تركي مودعة في أجهزة الحواسيب.. حينما يمضي المريض الى أي مشفى لا يحتاج الطبيب غير أن ينقر على زر الكمبيوتر فتتدفق عليه المعلومات.. في هذا توفير للوقت والمال.
الخطوة الأهم قام الأتراك بإلغاء كافة المستشفيات التي تقدم الخدمة لمنسوبيها فقط.. كما تم توحيد التأمين الطبي لكل العاملين في الحكومة.. في ذات الوقت تم إجبار القطاع الخاص على توفير التأمين الطبي للعاملين فيه.. لم يعد هنالك علاج مجاني، ولكن لا أحد يدفع من جيبه الخاص.. نقطة التميز تم استحداث نظام تحفيز للأطباء يقوم على وجود عيادات خاصة داخل المشافي العامة.. استناداً على قاعدة البيانات الحاسوبية كلما عالج الطبيب عدداً كبيراً من المرضى زاد حافزه المالي.. كل تلك الضوابط لم تغل يد القطاع الخاص من الاستثمار في الحقل الطبي.
في تقديري يجب الإسراع في الإصلاح الطبي في السودان.. علينا أن نبني على قاعدة توزيع المؤسسات الصحية، والغاء طبقية المشافي حتى لا يكون العلاج دولة بين النافذين.. الذين يفكرون في أن تعود مركزية المستشفيات القديمة يسيرون عكس عجلة التطور.. هم في ذلك التفكير يتساوون مع الذين ينادون بإلغاء كافة الجامعات الجديدة ليعود للخرطوم مجدها.
بصراحة..عامة السودانيين يكنون للطبيب احتراماً خاصاً.. ما حدث من احتكاكات في الفترة السابقة أمر استثنائي مرده لحالة الإحساس بالعجز من قبل مواطن غلبان أمامه مريض يعاني.. هذه الحالة الاستثنائية لا تستدعي تكوين جيش لحماية الأطباء.. كل ما تم تجويد الخدمة تحقق الرضاء من كافة الناس.