كواليس آخر مقابلة تلفزيونية حية مع القذافي!

تمر الخميس 20 أكتوبر/تشرين الأول الذكرى الخامسة لمقتل الزعيم الليبي العقيد معمر القذافي. مناسبة للاستذكار والتذكير وتسليط الضوء على الجناة “الكبار”!

تجسد الهمجية التي قتل بها العقيد معمر القذافي، والرقص لأيام بلياليها حول جثمانه نصف العاري في مدن الملح، عقلية وسلوك القائد نفسه مع شعب بذل القذافي كل ما بوسعه لتكريس بداوته، فاختار الخيمة لحكم دام أربعة عقود، لم يحقق خلالها لبلد شاسع بموارد هائلة، إلا القليل من التنمية.

لقد خاض منظر”الكتاب الأخضر”، حروبا عبثية، شملت رقعة جغرافية تمتد من إيرلندا الشمالية إلى تشاد والنيجر مرورا بالسودان ودعم الحركات الانفصالية بمن فيهم أكراد العراق وتركيا .

وكنت آخر صحافي يمثل قناة تلفزيونية عالمية “روسيا اليوم” التقى القذافي وهو في سدة الحكم قبل انطلاق حملة الناتو العسكرية على ليبيا بيومين في آذار/مارس من العام 2011. نفس العام الذي شهد النهاية المأساوية للزعيم الراحل.

جرى اللقاء في الخيمة التي رأيت فيها، وفي أثاثها المغبر نموذجا صارخا لنظام الحكم البدوي القائم على فكرة أن الشعب قطيع، والسلطة هبة من السماء لمن اختاره الرب راعيا لقطيع، إذا تمرد بعض خرافه فإن عملية تأديبية صغيرة تكفي لإعادتهم إلى الطريق المستقيم.

البداية

وصلنا وفريق التصوير إلى طرابلس برا من تونس التي تكدس على حدودها مع ليبيا في مركز “ابو جدير” عشرات الألوف من الأجانب النازحين، الهاربين من مدن العقيد، بعد اندلاع ما بات يعرف في الأدبيات السياسية الدولية بالثورة

الليبية، وظل العقيد المثقل بالزي البدوي الليبي، يصفه بالتمرد المسلح؛ لأن “ثوار” بنغازي سرعان ما استولوا على ثكنات الجيش ومخازن الأسلحة وبدأت معركة طويلة لإسقاط النظام، وتحقق السقوط بفضل تدخل الناتو.

قدمنا طلبا للقاء العقيد، وكتبت صفحة كاملة عن سيرتي الذاتية، وفيها مسقط الرأس والتحصيل الدراسي من جامعة بغداد وجامعة موسكو، واسم العائلة واللقب وهو أمر لم اعتده في حياتي، لكن ذلك تم بناء على طلب مسؤولي الإعلام الخارجي الليبي الذين كانوا كل ثلاثة أيام يؤكدون لنا أن اللقاء قريب، وفي اليوم الرابع يطلبون معتذرين كتابة طلب جديد مع السيرة الذاتية قائلين “معلش الوضع مش باهي في البلد والأوراق ضاعت”!!

وهكذا بلغ عدد الطلبات رقما لا أتذكره، لكن صبرنا نفد، فاتصلت بالناطق الرسمي المتحدث بإنكليزية نادرة وسط متعلمي ليبيا، بعد سنوات من انقطاع عن تعلم اللغات الأجنبية، السيد موسى إبراهيم.

الشاب الدمث، أكد لنا أن اللقاء سيتحقق، وحين سألته هل يحتاج العقيد الى الأسئلة مسبقا، رد ليس بالضرورة مضيفا “لكن المحاور على الأقل…”. وثانية كتبت رسالة جديدة مع السيرة الذاتية. وقبل ان أسلمها قلت لموسى بين الجد والهزل “هذا آخر إنذار فقد عيل صبرنا “. رد موسى أن اللقاء سيتم “فجأة “.

وبعد أقل من ساعة على اتصالي بإدارة القناة في موسكو لتدبير أمر عودتنا لأننا لم نعد نطيق الانتظار والبقاء أكثر من شهر في طرابلس، جاء ممثل الإعلام الخارجي مهرولا وقال تحضروا… بعد قليل سنتوجه إلى باب العزيزية.

سيارة الجيب التي أقلتنا إلى “عرين القائد” دخلت منطقة خربة فيها آثار هدم قديم وقصف لم تبق من ضرباته غير جدران متهاوية وحجارة متناثرة، وأكوام من القمامة الحديثة تراكمت مع بقايا القصف الأمريكي عام 1989 على باب العزيزية مقر القذافي الذي أمر بعدم رفع الأنقاض والإبقاء على “الصورة حية ” تشهد على وحشية اليانكي”.

المعشوقة كوندي

بعد أقل من عقدين على الهجوم الوحشي، استقبل العقيد في خيمته وسط العزيزية سمراء الدبلوماسية اليانكية، كونداليزا رايس، ودبج أبيات شعر يتغزل بجمالها. وفي نفس الخيمة، استقبل القذافي، النصاب الدولي توني بلير، وعامله باحتقار مدركا أن توني السمسار جاء ممثلا لشركات بريطانية وعالمية طمعا في عقود مع ليبيا بعد أن سلم العقيد ملف بلاده النووي. ودفع تعويضات تزيد على ملياري دولار لضحايا تفجير لوكربي. ورفعت عواصم الغرب وواشنطن اسم ليبيا من لائحة الارهاب، وتقاطروا عليه يلثمون يدية كما بيرلسكوني الذي اعتذر باسم إيطاليا عن مجازر بلاده في ليبيا مطلع القرن الماضي وطبع قبلة ممزوجة بلعاب مخمور على يد القذافي وسط الخيمة.

ركام العزيزية، ينتهي بمبنى كالح اللون، صالة استقبال الضيوف مع أثاث لا ينم عن ترف، وألوان اختلط فيها الأحمر الفاقع مع الأخضر القاتم، وموظفين بزي رث وساعة معلقة في نهاية الصالة متوقفة العقارب.

في الخيمة

لم يمض وقت طويل حتى أبلغونا بالانتقال الى الخيمة. وبدى الارتباك واضحا على أحد مصوري الفريق. سألته بالروسية “لماذا أنت مرتبك ؟. “قال محرجا”حتما سنخضع للتفتيش وجيوبي مليئة بقطع حلوى وتمر لأني تركت التدخين وأحتاج الى ما يعوض عنه “. وبدأ بإخراج قطع الحلوى للتخلص منها قبل ان نصل الى الخيمة.

لم نخضع إلا لتفتيش بسيط. تأكدوا من الكاميرات فقط. واحتفظنا بالهواتف النقالة. أمر أثار دهشتي وأدخل البهجة في نفس المصور ديمتري كريفكو الذي لم يفلح في التخلص إلا من ربع “الاحتياطي الاستراتيجي” من حلواه!

وقفنا عند بوابة الخيمة. الحراس ينتظرون معنا، لا يحملون سلاحا ظاهرا.

وفجأة بدأوا برفع المقاعد الخشبية المغلفة بقماش فاقع الحمرة، من الخيمة وأحضروا بدلها كرسيين أبيضين من البلاستيك. لاحظت ان الكرسي الذي قالوا إنه مخصص لي في مواجهة العقيد مغبرا. طلبت من مساعد المصور أن يمسحه. فالتفت أحد الحراس إلى الحركة وسارع بمسح كرسي العقيد المغبر أيضا.

وصل العقيد، صافحنا بحرارة، ومعه مترجم. وقبل أن يدخل الخيمة سألني المترجم الذي سمعني أتحدث العربية، هل تحتاج إلى ترجمة إنكليزية. قلت مستغربا “لا”. ولكن بعد انتهاء المقابلة اتسعت دهشتي حين قال لي العقيد بلهجته الصعبة “انت تتحدث العربية بطلاقة “. أجبته “طبعا فأنا عربي ابن عربي ومن أم عربية”.

هنا اكتشفت أن “إدارة الرئيس” لم تبلغ العقيد حتى بأسماء الفريق ولا بسيرتي الذاتية. وأيقنت أن العقيد فعلا لا يحكم ولا يدير وأن ليبيا دولة بلا مؤسسات. دولة الخيمة.

أوهام العقيد

في الخيمة، دارت الكاميرات، وعلى مدى نصف ساعة، أجاب العقيد عن أسئلة لم يطلبها مسبقا. وكشف عن أنه “واثق من النصر” ومتأكد من “عودة المغرر بهم الى بيت الطاعة” وأن “الغرب سيندم على الحملة العسكرية لحلف الناتو”.

وقال “هاهم الآن يبعثون لي برسائل غير مباشرة يريدون مني ان أصفح عنهم وان تعود المياه الى مجاريها”.

العقيد لا يؤمن بنظرية المؤامرة. وكان يرى ان من انشق عن نظامه وقع ضحية التضليل الاعلامي “حقهم .. اذا القنوات تبث صورا كاذبة تزعم انني أقصف الأحياء السكنية بالطائرات”. ونفى ان يكون قتل أحدا “ظلما”. وتوقع “نهاية قريبة للحصار الجوي”.

وبإصرار أعمى، أكد ان نموذج “الجماهيرية” سيعم كل دول المنطقة وحمل على الجامعة العربية “الحمد لله أنها انتهت” . وقال إنه سيكافئ روسيا والصين والهند على مواقفهم في مجلس الامن “أبواب ليبيا مفتوحة أمامهم”

12 مليار دولار روسية

قبل يوم واحد من المقابلة معنا كان الكرملين أقال سفيره فلاديمير تشاموف في طرابلس لأنه التقى العقيد لمدة ساعتين دون إذن من الرئيس دميتري مدفيديف الذي اتهم القذافي في تصريحات صحفية بأنه يعرض شعبه الى القتل. وقبلها كانت روسيا امتنعت عن التصويت في مجلس الأمن على قرار فرض الحظر الجوي، وبذلك أجازت القرار مع محاولة للاحتفاظ بماء الوجه مع أكبر شريك اقتصادي لروسيا في افريقيا.

السفير تشاموف، مستعرب، يتقن الفرنسية والانكليزية، أبلغني بالم “تصور لقد شطب الكرملين على 12 مليار يورو عقود مع ليبيا حين لم يستخدم حق الفيتو في مجلس الأمن”.

وقال “سيدمر حلف الناتو ليبيا. ويقتل العقيد الذي لن يغادر البلاد وسيبقى يقاتل الى النهاية أما روسيا فستخسر كل شيء”.

السفير المقال، اعتكف بعد عودته الى موسكو الى ان أعيد الى الخارجية. وكان رئيس الوزراء آنذاك فلاديمير بوتين وصف قرار فرض الحظر على ليبيا القذافي “حربا صليبية جديدة”.

فلاديمير بوتين الذي عاد للكرملين رئيسا في انتخابات العام التالي. تدخل لصالح السفير الموهوب تشاموف؛ فأعيد الى الخدمة في وزارة الخارجية. ولكن بعد ان أكمل حلف شمال الأطلسي مهمة “حماية المدنيين” في ليبيا وأحرق الأخضر واليابس.

لماذا أخروا أجله ؟

حين كنا في الخيمة، فكرت؛؛ أن تصفية العقيد على يد “خبراء” الناتو، وقنابلة الذكية أمر ليس معقدا في ضوء التسيب الذي شهدناه في باب العزيزية بدءا من إجراءات التفتيش البسيطة الى الفضاء المفتوح، ومدافع “جراد” هكذا يلفظ الليبيون، منظومة الدفاع الجوي سوفياتية الصنع من الجيل القديم “غراد” المنتشرة بوضوح حول المباني في باب العزيزية والتي لا تسقط “جرادة” بله صواريخ توماهوك.

وبعد خمسة شهور تقريبا من الحرب على ليبيا، الى ان قتل القذافي، يتضح أن شركات حلف الناتو، كانت تسعى لإطالة حياة العقيد، لتدمير أكبر قدر من البنى التحتية في ليبيا ، فالأزمة المالية والاقتصادية في منطقتي الدولار واليورو بحاجة الى مزيد من عقود إعادة الإعمار. وتذكروا العراق ؟؟

“The Game Over”

لقد كان بوسعهم القضاء على شيخ القبيلة بضربة قاضية؛ تنهي الحرب، وتوقف الدمار وتحقن دماء الوف الليبين قضوا في معارك امتدت لشهور. لم يكن في مصلحة الناتو رؤية العقيد ميتا في وقت مبكر الى ان وصلت شقراء الدبلوماسية الأمريكية هيلاري كلينتون قبل مصرعه بيومين لتأمر بإنهاء اللعبة.

وفي أواخر آب/أغسطس من نفس العام، زارت شخصية مثيرة للجدل، سبق وأن التقت صدام حسين عشية الغزو الأمريكي عام 2003، ولعب مع القذافي شوط شطرنج فاز فيها معمر القذافي على كيرسان ايليومجينوف رئيس جمهورية كالميكيا إحدى جمهوريات روسيا الاتحادية، ذات الأغلبية البوذية. ويرأس الآن الاتحاد الدولي للشطرنج.

حينها كنت في مهمة صحافية بواشنطن، التقيت خلالها طيفا واسعا من خبراء معاهد الأبحاث الأمريكية، عربا وأمريكان، وتوصلت الى استنتاج ان البيت الأبيض يستخدم الاوربيين قفازا لالتقاط الكستناء من حريق ليبيا، وان النهاية سيحددها باراك حسين أوباما الذي يحلو للقذافي أن يخاطبه “ولدنا مبروك حسين” على أنه ابن إفريقيا المسلم.

لكن أوباما كان يقرع كؤوس البيرة المثلجة في مطبخ البيت الأبيض ساخرا من سذاجة العقيد، ولم يلتفت أو يكترث ولو لمرة للرسائل المفتوحة والأخرى بواسطة مبعوثين كان العقيد يبثها وجدا الى ولده “مبروك حسين”؛ طالبا منه وقف الحرب على ليبيا.

ولمعرفتي السابقة بحركات ايليومجينوف في العراق، ومع صدام حسين الذي أغرقه بكوبونات النفط مقابل أكاذيب بالتدخل لرفع الحصار. فقد نشرت مقالا عنوانه “اللعبة بدات!”. أشرت فيه الى أن زيارة رئيس كالميكيا السابق الى القذافي في مخباه، ستعجل في بداية النهاية.

لم يمض وقت طويل حتى عجل المشعوذ البوذي بنهاية من تغلب عليه في شوط الشطرنج.

من المستبعد أن يكون القذافي لاعب شطرنج بمهارة كيرسان، بل ليس مؤكدا فيما إذا كان معمر يعرف قواعد اللعبة التي تحتاج الى عقل مدني. بيد أنه كان يجب أن يظهر كيرسان خسارته أمام معمر على شاشات التلفزيون. أما خلف الكاميرات وفي الكواليس فقد حصل رئيس كالميكيا السابق على مراده؛؛ كيف يفكر القذافي وكيف يعيش. معلومات لا شك أن جهة ما تريد الحصول عليها لأن الاقمار الصناعية قد تتمكن من رصد تحركات العقيد المكشوفة، إلا أنها لن تستطيع التعرف على خيالاته .

وكتبت حينها “ربما تكون زيارة ايليومجينوف إلى طرابلس بداية نهاية اللعبة بالعودة الى مصير صدام حسين”.

غربان مدن الملح

قتلت فئة من الليبيين القذافي وسحلوه ومثلوا بجثته، ورقصوا حولها أياما ثلاثة. ولم يرتعب الأطفال الفرحون بنصر آبائهم من الدم المتيبس على جسد ووجه العقيد المتخشب. ولم يفت أحد من “مشايخ الجهاد” أمثال القرضاوي الذي أحل دم القذافي بدفنه وتناسوا ان إكرام الميت في دفنه.

كنت قبل بضع سنوات صورت مشهد غراب يدفن غرابا ميتا في صقيع موسكو. أخرجت الفلم من الأرشيف. كان الغراب الدفان ينق، ويطرد عصافير كانت تتجمع حول الغراب الميت متطفلة. لم يصرخ الغراب “الله أكبر” بل دفن “ابن ريشه” وسط صمت غابة يقطعها نعيق ونقيق وزقزقة طيور وحيوات تبحث عن طعام ومأوى من البرد.

في الساعة السادسة من فجر الرابع عشر من تموز عام 1958، سقطت العائلة المالكة في العراق مضرجة برصاص جنود قرويين أمرهم ضابط أرعن بإطلاق النار على نساء وشاب أعزل مع خاله وخدم صغار وطباخ تركي.

الضابط الأرعن مات منتحرا بعد سنوات من مكابدة مرض الكآبة. والجنود القرويون نهبوا محتويات القصر الملكي البسيط وتكاثروا مخلفين أجيالا من الدهماء والرعاع وصلت الى سدة الحكم؛ وتتربع على عرش العراق المعفر بالكراهية والقمع والوحشية والقهر واللصوصية. ومنذ تلك الساعة الى اليوم لم تتوقف دورة الدم والانتقام في العراق.

حين أخبرت القذافي المندهش من عربيتي الطليقة متوهما انني روسي، أخبرته بأني عراقي نزع نظارته السوداء وكأنه أراد أن يرى وجهي بوضوح أشد. وقال بما يشبه الهمس نعم نعم بغداد، اعرفها اعرفها !!.

مات القذافي، لكن دولة الخيمة ستعيش طويلا في ليببيا المحتفية بثوار يصرخون “الله اكبر” حول جثمان منكمش وبيدهم رشاشات اي بي ام الأمريكية الفتاكة.

سلام مسافر

روسيا اليوم

Exit mobile version