يعاني الاقتصاد السوداني العديد من المشاكل، التي تفاقمت بشكل كبير بعد انفصال الجنوب عام 2011، وذلك بعد الاستقرار النسبي على المستوى المالي والنقدي في فترة ما قبل الانفصال.
وفي الفترة ما بين 1999 إلى 2011، استفادت السودان بشكل كبير من الاكتشافات الواسعة للنفط، وارتدى الاقتصاد السوداني ثوب الاقتصاد النفطي، وخلال هذه الفترة ارتفع النمو الاقتصادي عن معدله الطبيعي الذي كان يسجله قبل ذلك وهو 4.9%، ووصل إلى 6.1% في المتوسط سنويًّا. على الرغم من الحرب الأهلية التي كانت دائرة بين الشمال والجنوب.
وسرعان ما أصبحت العوائد البترولية هي المصدر الرئيسي للإيرادات العامة في السودان، حيث ساهمت هذه العوائد بأكثر من 50% في الإيرادات العامة، و90% من مصادر النقد الأجنبي.
وبناءً على ذلك، كانت إدارة الاقتصاد الكلي تتميز بالاستقرار النسبي، ما أدى إلى ارتفاع معدل الادخار، بسبب زيادة المدخرات الخاصة والعامة أيضًا.
ولكن أصيب الاقتصاد جراء هذا الوضع، بداء اقتصادي عُضال يُعرف بـ «المرض الهولندي- Dutch Disease»، ويعني ذلك العلاقة العكسية بين تدفق العملات الأجنبية لأي سبب، مثل النفط، وتدهور الصناعات التحويلية أو الزراعية، فعندما ترتفع مستويات تدفق الدولار على سبيل المثال، بسبب ارتفاع عائدات الدولة من الموارد الطبيعية؛ يؤدي ذلك إلى ارتفاع قيمة العملة المحلية مقابل العملات الرئيسية، وبخاصة الدولار، وهو ما يؤدي إلى ارتفاع تكاليف الصادرات لهذه الدولة، بالمقارنة مع انخفاض الواردات، وما ينتج عن ذلك من انخفاض القدرة التنافسية للمنتجات المحلية في السوق الدولي، وبالتالي تتدهور الصناعات.
هذا ما حدث في السودان، خلال تلك الفترة، إذ أُهملت الزراعة، بسبب الاعتماد الرئيسي على عائدات النفط، رغم مطالب العديد من الجهات ومنها البنك الدولي، باستثمار العائدات النفطية في تنويع الاقتصاد، وعدم الاعتماد على مصدر واحد للدخل، وهو النفط.
مناشدات بتنويع الاقتصاد
في النشرة الاقتصادية القُطرية التي يصدرها البنك الدولي، بخصوص السودان في عام 2009، شجّع من خلالها البنك الدولي، القطاع الخاص في السودان أن يوجه الاقتصاد نحو التنوع، وبخاصة في قطاع الزراعة، الذي يشكل نقطة قوة لدى السودان.
واقترحت النشرة، إجراء العديد من الخطوات من أجل التغلب على اعتماد الاقتصاد على مصدر واحد للدخل من الموارد الطبيعية، كما دعت إلى تطوير البيئة التي تحفز النمو، والحفاظ على استقرار الاقتصاد الكلي من خلال انتهاج سياسة مالية فعالة، كما سلطت النشرة الضوء على ضرورة تنفيذ سياسات تحسن من مناخ الاستثمار، وخصوصًا في قطاع الزراعة الذي تدهور بشدة في الحقبة النفطية، وانخفضت مستويات الإنتاج فيه بصورة كبيرة.
ومنذ عام 2008، ازدادت وتيرة الصراع بين الشمال والجنوب بسبب اقتراب موعد الاستفتاء على انفصال الجنوب الذي كان مقررًا له أن يتم في عام 2011، بعد اتفاق السلام التاريخي بين الشمال والجنوب في عام 2005، الذي منح الجنوب حق تقرير المصير في 2011.
ونتيجة لهذا الصراع تأثرت إنتاجية النفط بشكلٍ كبير، حيث شنت القوات العسكرية لشمال السودان هجمات للسيطرة على مواقع النفط، وخصوصًا في المنطقة الحدودية «أبيي» الغنية بالنفط.
الانفصال
شكّل الانفصال صدمةً للشمال السوداني، إذ فقدت البلاد حوالي 75% من إيراداتها النفطية، واضطرت الحكومة إلى إجراء التقشف المالي، وإجراء إصلاحات هيكلية نقدية مثل تخفيض قيمة الجنيه السوداني خلال أعوام 2012 و2013، ووصل إلى5.7 جنيه سوداني للدولار ، وهو ما رفع من تكاليف الواردات وبالتالي أجج التضخم.
ومن أبرز مشاكل الاقتصاد السوداني بعد الانفصال، ارتفاع معدلات التضخم، حيث تجاوزت 30% عام 2012، وفي عام 2014 بلغ أعلى مستوياته السنوية لأول مرة حيث وصل إلى 37%، ووصل إلى 47% في شهر يوليو (تموز)، ولكنه انخفض في ديسمبر (كانون الأول) إلى 25%.
حديثًا قال مكتب الإحصاء المركزي السوداني، في أغسطس (آب) الماضي، إن معدل التضخم السنوي ارتفع ليصل إلى 16.5% في يوليو (تموز) من 14.3% في يونيو (حزيران)، بسبب ارتفاع أسعار المواد الغذائية.
ويوضح الشكل التالي مقدار الارتفاع في معدلات التضخم من عام 2000 حتى العام الجاري، إذ يبين الارتفاعات الكبيرة التي حدثت عقب الانفصال، تحديدًا في عام 2011.
الاقتصاد السوداني
وتستخدم الإيرادات من العملة الصعبة بشكل رئيسي، في دعم الجنيه السوداني، ودفع ثمن المواد الغذائية وغيرها من الواردات الأخرى.
وبسبب نقص العملة الأجنبية، انخفض الجنيه السوداني مقابل الدولار الأمريكي بشكلٍ كبير، ونشأت السوق السوداء، إذ وصل سعر صرف الجنيه السوداني فيها حوالي 15 جنيهًا للدولار في أغسطس (آب) الماضي، رغم أن السعر الرسمي هو 6.4 جنيه مقابل الدولار.
وأدى نقص الدولار، ووجود سوق موازية للعملة، والتي تشهد المزيد من انخفاض العملة المحلية؛ إلى ارتفاع تكلفة الواردات بشكل كبير، وهو ما أدى إلى حدوث موجات تضخمية كبيرة.
وفي تعليقه على الانخفاض الكبير في قيمة الجنيه السوداني أمام الدولار، وهو ما وصفه البعض بالانهيار حيث انخفض بنسبة تجاوزت 100% من قيمته في السوق السوداء؛ فقد قال المحلل الاقتصادي محمد الناير «للجزيرة نت»، إن السبب الرئيسي لارتفاع سعر صرف الدولار، يعود إلى انفصال جنوب السودان في 2011، ما أفقد البلاد نحو 75% من إنتاج النفط الذي يمثل أكثر من 90% من مصادر النقد الأجنبي، كما أفقدها نحو 50% من إيرادات الموازنة العامة.
ويرى الناير أن تلك المسببات مع العقوبات الاقتصادية الأمريكية على السودان أدت إلى تعقيدات في التحويلات المصرفية من وإلى السودان، مشيرًا إلى أن واردات البلاد بلغت أكثر من سبعة مليارات دولار سنويًّا، في حين لم تتجاوز صادراتها أربعة مليارات دولار.
في سبتمبر (أيلول) الماضي أصدر البنك الدولي أحدث مذكرة اقتصادية له بشأن السودان، حيث تقدم دراسة تحليلية ومشورة للسلطات السودانية من أجل تسريع وتيرة التحول الهيكلي، وتنويع النشاط الاقتصادي. وحقق الاقتصاد السوداني بعض التعافي من الآثار الكبيرة للانفصال. بفضل استغلال إمكانيات تصديرية أخرى غير النفط، مثل الذهب، والماشية.
ويقول البنك الدولي إن الوصول إلى اقتصاد أكثر تنوعًا لا يعتمد على الموارد الطبيعية وحدها؛ إذ يستلزم أن يتخذ السودان مجموعةً متنوعةً من الإصلاحات المؤسسية والاقتصادية الكلية، وعلى مستوى القطاعات، وذلك لإيجاد مسار أكثر استقرارًا للنمو.
وأوضح مايكل جيجر، كبير الاقتصاديين ومؤلف تقرير البنك الدولي حول السودان إلى أن «تنويع النشاط الاقتصادي يأتي في صدارة أجندة الحكومة السودانية. ومع أن السلطات نجحت في خفض معدل التضخم والتعافي قليلًا من معدلات النمو السلبي في عامي 2011 و 2012، يجب بذل المزيد من الجهود لضمان وجود أُفُق أكثر استقرارًا على المدى المتوسط».
ويحصر التقرير ثلاث مشاكل رئيسية للاقتصاد السوداني هي: ارتفاع معدل التضخم وتقلبه، وسعر الصرف الذي تم تحديده بأكثر من قيمته منذ فترة طويلة، وانخفاض الإنتاجية في القطاع الزراعي.
وأضاف جيجر أن «فقدان الاحتياطات النفطية الكبرى كان له تأثير كبير في الاقتصاد، حيث شكل النفط 75% من عائدات العملة الأجنبية في السودان التي وصلت إلى الذروة في عام 2008، بحوالي 8.3 مليار دولار».
وعن بعض الإحصائيات السريعة التي تمكنا من فهم طبيعة الوضع الاقتصادي السوداني لعام 2015، فقد بلغ معدل السكان 40 مليون نسمة، والناتج المحلي الإجمالي بلغ 84 مليار دولار، ووصل النمو الاقتصادي إلى 3.4%، والتضخم إلى 16.9%، وذلك وفقًا لبيانات البنك الدولي.
إمكانيات طبيعية
ويمتلك السودان موارد طبيعية ضخمة غير النفط مثل الأراضي الزراعية الخصبة، والثروة الحيوانية الوفيرة، والصناعات التحويلية، حيث يشكل مجموع ذلك، السبيل الوحيد لتنويع الاقتصاد، والتغلب على الانخفاض الكبير في عائدات النفط بعد انفصال الجنوب.
ويمكن لهذه الموارد الطبيعية غير النفطية أن تساهم في استقرار الاقتصاد الكلي على المدى المتوسط، حيث تساهم هذه القطاعات بنسبة 35 إلى 40% من الناتج المحلي الإجمالي، وهي بالطبع نسبة منخفضة بالمقارنة مع الميزة الاقتصادية، ومستوى العائد المتوقع منها، وبالتالي يمكنها أن تساهم بشكل أكبر في زيادة الناتج المحلي الإجمالي، وزيادة الاستثمارات.
وعن الزراعة والإنتاج الحيواني في السودان، فإن المحاصيل الرئيسية التي تعتمد عليها هي القطن، والفول السوداني، والصمغ العربي، وبذور السمسم. ويظل القطن والفول السوداني من أهم الصادرات الزراعية الرئيسية. أما الذرة فهي المحصول الغذائي الرئيسي، ويزرع القمح للاستهلاك المحلي.
أما الإنتاج الحيواني، فلديه إمكانيات هائلة، حيث يتم تصدير العديد من الحيوانات، وخاصةً الأبقار والأغنام والإبل إلى المملكة العربية السعودية، ودول عربية أخرى.
وما زالت هناك مشاكل متعلقة بتمويل الاستثمار والإنتاج والنقل، حيث تعتبر من أعظم المعوقات لإقامة اقتصاد زراعي أكثر ديناميكية.
ورغم امتلاك السودان 84 مليون هكتار من الأراضي الصالحة للزراعة، إلا إنه يزرع أقل من 20% منها. وتمثل أراضيها الزراعية حوالي 45% من مساحة الأراضي الصالحة للزراعة في العالم العربي، حتى تم إطلاق لقب سلة غذاء العالم العربي عليها؛ بسبب هذه الإمكانيات الكبيرة.
وفي سبتمبر (أيلول)، افتتح الرئيس السوداني عمر البشير أول منجم للذهب في البلاد، ومن المحتمل أن يصبح المنجم الأكبر للذهب في أفريقيا. وينتج هذا المنجم حوالي 328 طنًّا من الذهب سنويًّا. ويرى محللون اقتصاديون أن هذا المنجم هو جزء من الإستراتيجية الحكومية لتعويض النقص في إيرادات النفط بعد انفصال الجنوب عام 2011.
عقبات وتحديات
ومن الأعراض التي سببت العديد من المشاكل للاقتصاد السوداني، وما زالت آثارها ممتدة؛ هي أن السودان لم يستخدم مكاسب النفط في الاستثمار في التنمية البشرية، ولم ينتبه لتنويع اقتصاده حتى استيقظ على نقص الإيرادات النفطية التي كان يعتمد عليها بمقدار الثلثين تقريبًا، كما أنه لم يشجع الاقتصاد الخاص.
بالإضافة إلى الأعراض المستدامة مثل عدم الاستقرار السياسي، والفساد، وعدم اليقين الاقتصادي، وهو ما يؤثر في البيئة المثالية للاستثمار، وتطوير الأعمال، وخلق فرص العمل. وتوجد معوقات أخرى تتمثل في انخفاض كفاءة البنية التحتية مثل النقل والكهرباء. كما أن هناك خللًا في بعض السياسات المالية والضريبية.
وما زالت السودان دولة مثقلة بالديون الخارجية، حيث تراكمت عليها العديد من الديون المستحقة الدفع. ففي نهاية عام 2013، بلغ الدين الخارجي للسودان 45.1 مليار دولار، وحوالي 85% من هذا الدين كان متأخر السداد. إلا أن هناك بارقة أمل في تخفيف هذه الديون عن طريق «مبادرة البلدان الفقيرة المثقلة بالديون»، التي تتبناها المؤسسات المالية الدولية، وعلى رأسها صندوق النقد الدولي، من خلال قيام السودان بإجراء اتفاقيات ودية مع الدول الدائنة.
الأداء الاقتصادي الكلي
وعلى مستوى السياسات المالية؛ فقد هدفت الموازنة العامة السودانية لعام 2015 إلى تحقيق الأهداف الاقتصادية الكلية، من خلال العمل على زيادة الإيرادات العامة، وترشيد الإنفاق الحكومي. وفي هذا الإطار فقد نجحت السطات السودانية نسبيًّا في تحقيق هذه الأهداف.
فوفقًا لبيانات الجهاز المركزي السوداني، فقد بلغت جملة الإيرادات العامة 54.5 مليار جنيه، فيما بلغت جملة النفقات العامة 61.5 مليار جنيه بنهاية عام 2015، وبالتالي سجلت الموازنة العامة عجزًا كليًّا مقداره 6.9 مليار دولار .
ويبين الشكل التالي الإيرادات العامة، والنفقات العامة، والعجز الكلي لعامي 2014، و2015 في الموازنة العامة السودانية. وننوه إلى أن مصدر جميع الأشكال التالية هي البنك المركزي السوداني في تقريره السنوي لعام 2015.
الاقتصاد السوداني
وتشكل الإيرادات الضريبية معظم مكونات الإيرادات العامة، حيث تجاوزت 70% من الإيرادات، ويوضح الشكل التالي مساهمة بنود الإيرادات العامة في الموازنة العامة للدولة لعام 2015.
الاقتصاد السوداني
ويوضح الشكل التالي مساهمة بنود النفقات العامة في الموازنة العامة للدولة لعام 2015، حيث يهيمن عليها تعويضات العاملين بنسبة تجاوزت 33%.
الاقتصاد السوداني
وعن ميزان المدفوعات السوداني فقد سجل فائضًا في العام الماضي بمبلغ 38.4 مليون دولار، مقابل عجز في عام 2014 بلغ 3.3 مليون دولار. بينما ارتفع عجز الحساب الجاري من 3.54 مليون دولار عام 2014، إلى 5.95 مليون دولار عام 2015.
وتشير بيانات التجارة الخارجية إلى ارتفاع العجز في الميزان التجاري من 3.6 مليار دولار عام 2014، إلى 5.2 مليار دولار عام 2015، بمعدل 42%. وذلك بسبب تراجع قيمة الصادرات من 4.4 مليار دولار عام 2014، إلى 3.1 مليار دولار عام 2015 بمعدل 28%. بينما ارتفعت قيمة الواردات نتيجة تدهور الجنيه السوداني من 8.1 مليار دولار عام 2014، إلى 8.3 مليار دولار عام 2015، بمعدل 3.2%.
ويوضح الرسم التالي نسبة مساهمة الصادرات خلال عام 2015، حيث تهيمن السلع الزراعية على الصادرات السودانية بنسبة تجاوزت 26%.
الاقتصاد السوداني
أما عن الواردات، فمن المثير للدهشة استحواذ المواد الغذائية على الواردات السودانية على الرغم من اعتبارها سلة غذاء العالم العربي، بسبب حجم الأراضي الزراعية الصالحة للزراعة. ويوضح الشكل التالي نسب مساهمة الواردات خلال عام 2015.
الاقتصاد السوداني
وعن الدين الخارجي السوداني، فقد ارتفعت المديونية من 43.7 مليار دولار عام 2014، إلى 45 مليار دولار عام 2015، بنسبة زيادة بلغت 1.3 مليار دولار، ويشكل الدين الخارجي لعام 2015 نسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي حوالي 51%. وارتفعت الديون العام الماضي بسبب تراكم خدمة الدين، بالإضافة إلى الجزاءات المالية الناجمة عن عدم السداد.
وعن مساهمة القطاعات في الناتج المحلي الإجمالي السوداني لعام 2015، فقد هيمن قطاع الخدمات بنسبة 49%، ويوضح الشكل التالي مقدار مساهمة القطاعات.
الاقتصاد السوداني
الفساد المستشري
وعن تصنيف السودان في تقرير الشفافية الدولية لعام 2015 الذي يقيس درجة الفساد في القطاع العام خاصةً؛ فقد قبعت السودان في أواخر القائمة التي تضم 168 دولة؛ لتصبح الدولة رقم 165، ما يفصلها عن القاع ثلاث دول فقط، هي الصومال، وأفغانستان، وكوريا الشمالية.
وهو ما يؤكد انتشار الفساد في القطاع الحكومي بنسبة ضخمة جدًّا؛ مما يقوض من الجهود المبذولة لدفع التنمية الاقتصادية، وتحقيق التقدم الاقتصادي.
ساسة بوست