يوسف عبد المنان

يوم طويل

أمضينا يوم أمس (الأحد) في تجوال ببادية المسيرية مرافقين للسيد نائب رئيس الجمهورية “حسبو محمد عبد الرحمن” ووفده الأمني والسياسي الرفيع المستوى، الذي ضم وزيري الدولة بالدفاع الفريق “علي سالم” و”عبيد الله محمد عبيد الله” وزير الدولة بالخارجية واللواء “صلاح” مدير إدارة الولايات بجهاز الأمن والمخابرات والفريق شرطة “كمال عبد المنعم” نائب مدير عام قوات الشرطة، وقيادات سياسية واجتماعية من المركز وولاية غرب كردفان، من أجل طي صفحة خلاف عميق بين بطون المسيرية، كان حصاده المر أن فقدت البلاد خلاله ألف قتيل جميعهم من الشباب الذين تحملوا عبء الدفاع عن السودان خلال سنوات الحرب وما قبل “نيفاشا”، والآن سقط المجاهد ببندقية المجاهد والمسيري بسلاح المسيري بين بطني المسيرية أولاد عمران والمسيرية الذيود، وطمرت الخلافات وعجز الحكومات مقترحات الحلول التي جاءت من مؤتمرات عديدة وفشلت في وقف حمامات الدم. وكان انتقال “حسبو” أمس لبادية المسيرية وقبل عودة قطعان الماشية إلى المصيف على تخوم دولة الجنوب وداخلها خطوة مهمة جداً في سياق البحث عن حلول، لمشكلات قد لا يشعر بها سكان المدن الذين هم ضحايا لجهلهم بما يجري في الأطراف النائية والقصية. ولكن أن يموت ألف من الشباب في نزاع داخلي عقيم من أجل التنافس على متاع الدنيا وقليل من ما تجود به شركات البترول من مساعدات إنسانية لهو العار بعينه، وقد اختط “حسبو محمد عبد الرحمن” منهجاً واقعياً بالجلوس على الأرض مع الناس العاديين والإصغاء إليهم في تواضع سلطة وحسن منهج.
جلس النائب ووفده أمس لأكثر من أربع ساعات تحت ظلال الأشجار وفي أطراف وادي سنطاية الواقعة جنوب الفولة بنحو ساعة بالطائرة المروحية، لأن القضية تستحق أكثر من ذلك وأنين الأمهات والثكالى والجرحى يكاد يمزق أحشاء الحضور ولم يتذوق أحد الطعام رغم جودة إتقان صنعه، لأن المأساة كانت تتسع مع كل نظرة لعيون طفل يحدق في الطائرة الرئاسية التي هبطت في قرية السنطاية، وأغلب الأطفال قد فقدوا آباءهم في معارك القتال الذي حصد الأرواح بلا رحمة. كانت كل جهود النائب “حسبو” في كيف ينعش الآمال بتنفيذ مقررات مؤتمرات الصلح التي عقدت من قبل في النهود والضعين ولم تنفذ سواء دفع الديات أو الفصل بين الأطراف.
ولكن زيارة أمس إلى مضارب عرب الذيود في البادية وحديث النائب إليهم كفت مواجهة القيادات بضرورة تحمل المسؤولية في وقف النزاع الذي تطاول من تسعينيات القرن الماضي وبتجاهله وفشل الحكومات الولائية المتعاقبة في معالجة أسبابه، جعل ثماره المرة تبلغ هذا الرقم الكبير من الضحايا، ولكن الآن بدا العزم أكيداً والرغبة صادقة من الذين تحدثوا بالأمس سواء في اللقاء السياسي الجماهيري أو في الوادي الذي امتد حتى قبيل المغرب بقليل. وقد نجح اللقاء في إعلان المسيرية الذيود الالتزام الصارم أمام نائب رئيس الجمهورية بتسليم الديات المليارية في منتصف ديسمبر القادم، وتكوين لجنة من عشرة أشخاص مهمتها تنفيذ مقررات الصلح والتنسيق مع حكومة غرب كردفان التي لو لم تفعل أي شيء سوى وقف الصراعات القبلية وفرض هيبة الدولة لكفاها ذلك، بالنظر لحجم المشكلات التي وجدتها متراكمة أمام طاولة الوالي. واليوم تمتد الزيارة إلى محلية الدبب التي تمثل الوجه الآخر من الصراع، وبذات المنهج يعقد نائب رئيس الجمهورية لقاءات هامة في اليوم الثاني لزيارته لغرب كردفان، من أجل طي أهم ملفات الصراعات القبلية في السودان وهو يبسط الشورى وتبادل الرأي وفي ذات الوقت يرفع عصا السلطة في الذين يرفضون الحلول الواقعية النابعة من صلب المجتمع، وفي الوقت ذاته كان لوجود قيادات المسيرية ضمن وفد الرئيس أثره البالغ في حسم القضايا الخلافية وكثيراً ما يتهم القيادات بأنهم وراء الصراعات القبلية، ولكن زيارة أمس أثبتت خطأ ذلك الاتهام الجائر، ويكفي أن هؤلاء القيادات كانت جزءاً من الحل على الأقل في الوقت الراهن.

المجهر