لا شك أن الإصلاحات التي تُجريها الأحزاب السياسية والمليشيات المسلحة الإسلاموية (سنيٍّة أم شيعية)، على بُناها الفكرّية أو هياكلها التنظيميِّة بطوعها واختيارها، أو قهرًا عبر القوة الضاغطة، أمر لافت للانتباه ومحفز للتفكير والتدبر خاصة بعد إعلان حركة النهضة التونسية الإسلاموية (إخوان) في مؤتمرها العاشر تحولها إلى حزب مدني يمارس السياسة دون الشعارات الدينية، ويفصل بين الدين والدولة، وكان الغنوشي في حوار أجرته معه (لوموند) الفرنسية قال في الصدد ذاته: ” نحن نؤكد أن النهضة حزب سياسي، ديموقراطي ومدني يفصل تمامًا بين الدعوي والسياسي، بناءً على مرجعية قيم حضارية مُسلمة حداثية”.
وبعيدًا عن القاعدة المطّردة القائلة: “بأن الإسلاميين لا يؤتمنون، ودائما ما يناورون لتحقيق أهدافهم”، تبدو عملية تحول النهضة إلى حزب يعمل ضمن سياق سياسي مدني (علماني)، أمر يستحق التأمل والتحليل (المُحايد) دونما تفتيش للضمائر، خاصة وأنه حدث ضمن فضاء عروبي قلّما تحدث فيه اختراقات فكرية حداثية هائلة، كونه خاملا كسولا، يبدو وكأنه (مشلول ومُقعد)، لذلك ينبغي علينا الإشارة هنا، إلى أن ما حدث للنهضة سبقته إليه كيانات إسلاموية حركية (إخوانية) في الغالب، تنشط خارج الحيّز العروبي الضيِّق والمتشدد، كما في ماليزيا وتركيا، وتمارس اللعبة السياسية في إطارها المدني المرن والمتطور والقابل للمحاسبة والإزاحة والتغيير.
لا يخفى، بطبيعة الحال، على المراقبين، كيف اشتغلت جُل الحركات الإسلاموِّية الراهنة – عدا السودانية – على مواكبة العصر، فاعتمدت عوضًا عن الطرق التقليدية من نشر الكتابات الدعوية والنشرات التحريضية للترويج لأفكارها، اعتمدت التقنيات الحديثة كالإعلام المرئي والإنترنت، بل اتجه بعضها إلى برامج الـ(توك شو) وما يُسمِّى بـ(الراب الإسلامي) كوسيلة لجذب شريحة الشباب، ولربما على إثر هذا ظهر مفهوم الجهاد الإلكتروني (الترويعي) الذي برع فيه (داعش) على وجه الخصوص.
الواقع، إن الحركات الإسلاموية خاصة الإخوانية منها، استطاعت أن تحقق تقدمًا ملحوظا في العقود الماضية، نحو هدفها الرئيس (الوصول إلى الحكم)، سواء أكان ذلك عبر صناديق الانتخابات (تركيا وماليزيا وتونس ومصر)، أو عن طريق الانقلابات العسكرية كحالة السودان، لكن ذلك لم يدم طويلًا في معظم الأحوال، لجهة أنها، اعتقدت، أن بمقدروها جعل الاسلام نموذجا متكامل الأركان له أسس ثقافية وقانونية وقواعد اقتصادية، فيما حصرت الأخلاق على تحريم بيع الخمور وضرورة تطبيق الشريعة الإسلامية وإقصاء النساء عن المناصب القيادية، وبالتالي وجدت نفسها معزولة عن العالم (النظام العالمي/ الكوني)، كما انعزلت عن الداخل الذي تديره بحيث استحوذت على الثروة والسلطة، وخلقت طبقة صغيرة مرفهة ومنعمة لا علاقة لها بمحيطها، فصارت وحيدة هائمة على وجهها، متخبطة لا تدري ماذا تفعل، وكيف المخرج وأين المفر؟
والحال، كما أشرنا سلفًا، أن بعضها انتبه (النهضة التونسية)، والآخر لا يزال يراوح مكانه المُتخبط (إخوان السودان)، ما أحدث انقسامات عميقة في الحركة الإسلاموية الإخوانية السودانية ( إخوان مسلمون، جبهة إسلامية، مؤتمر شعبي، مؤتمر وطني، عدل ومساواة، الإصلاح الآن، منبر السلام العادل، ومجموعة أمين بناني القديمة).
الآن، ليس أمام الحركات الإسلاموية السياسية، باب لتقصده، وليس وراءها باب فتلتفت إليه، كما قال النفرّي، فإما أن تصبح أكثر واقعية وتقتفي النهضة التونسية، وتقبل بالعمل كحزب مدني دون شعارات دينية، أو ستؤول إلى زوال محتوم، لأن مرحلة الافتتان الشعبي بالشعارات الإسلاموية كالإسلام هو الحل انتهت بعد اختبار رموز الحركة الإسلامية في السلطة، وما أبدوه من ضعف وهوان إزاءها فافتتنوا جاهًا وسطلة وثروة، وانفصلوا عن مجتمعهم وانفصمت ذواتهم انفصامًا بائنًا غير خفي. وبالتالي ليس من باب أمامهم ليبقوا قيد العمل السياسي، إلا الاستجابة السريعة والشجاعة والفاعلة لما تسمى بمرحلة (ما بعد الإسلاموية)، وهي مرحلة حتمية الحدوث، قوامها مجتمع ديمقراطي ودولة مدنية وتعددية سياسية، فإما أن تعد الحركة الإسلاموية السودانية لهذه المرحلة ما تستطيع من (قوة ومن رباط الخيل) بالمعنى المجازي التأويلي، أو عليها السلام
اليوم التالي