نزيف حاد
* النمو المطرد عنوان كل مكان تطؤه القدم وتصافحه العيون.. العالم من حولنا يتطور بسرعة الإفلات بينما نحن لا نزال نبحث عن الأبجديات، وننتظر (بيئة صحية معافاة تجنبنا للصدام بين مرافقي المرضى والأطباء وتحطيم المستشفيات)، في الوقت الذي تتسابق فيه أفواج المهاجرين؛ وتتضاعف الأسعار في الأسواق دون رقيب، ومهما زادت الأحوال من حولنا قسوة فلن تؤثر فينا لأن قلوبنا – بحمد الله – تحجرت ولم يعد يخيفها شروق شمس أسعار جديدة أو تدهور اقتصادي مريع، فما بين تمدد مساحات التشاؤم يوماً تلو الآخر وانكماش رقعة أمل تُطمِئن النفس ترقد ملايين الهواجس والتساؤلات والشكوك والظنون..!
* دعونا من الحديث عن ماسأة مستشفى أم درمان لأنها لن تكون الأخيرة فالموت يحاصر المرضى متكئاً على ضعف الخدمات ليدفع الأطباء الثمن ويقل الأمان، ولنرَ ماذا سيفعل الشاب الفلسطيني (عمر) طالما أن الحياة مبنية على القتال بغية تحقيق الغايات، فعندما تتناسل العوائق وتتحول العقبات إلى كتلة متاريس متماسكة يبقى خيار أولي الإرادة فى القفز فوق أسلاك الحياة الشائكة..!
* ما بين الصراع من أجل محبوبة والقتال في سبيل وطن خيط من إدراك، ففى الوقت الذي تزداد فيه دقات أفئدة الموجودين بالقاعة مع ارتفاع (رتم) الموسيقى التصويرية إذا بالخباز الفلسطيني الشاب (عمر) يراوغ قناصة العدو الإسرائيلي من أجل عيون امرأة بايعها سراً وعلانية لتصبح حسه وإحساسه ثم سرعان ما اكتشف أن مراوغة رصاص الجنود الإسرائيليين المتربصين في أبراج المراقبة الرابضة فوق الجدار العازل للقاء حبيبته (نادية) ينبغي أن يدفعه للتفكير في تحرير وطن يصون حب أبنائه ويضمن لهم لقاءات عاطفية آمنة قبل التفكير فى تأمين ممر يضعه ومحبوبته وجهاً لوجه، فلا قيمة لعلاقة عاطفية فى بلد منزوع الأمن والطمأنينة والحرية.
* تتزاحم الأسئلة الملغومة في خلفية الذهن، ويتسابق بعضها للقفز أمام العين، والفيلم الذي سبق أن اختارته إدارة مهرجان دبي السينمائي لافتتاح دورته العاشرة يقطع شوطاً طويلاً في الأحداث والإحداثيات:
هل جاملت إدارة المهرجان وقتها طاقم فيلم (عمر) أم أنه بالفعل كان يستحق حظوة الإستهلال ونيل شرف (قص شريط المهرجان)؟؟.. كيف تمكن المخرج الفلسطيني هاني أبو أسعد أن يقول كلمة البداية من بين 174 فيلماً تسابقوا للتنافس أو العرض من 57 دولة؟؟.. من أين استمد (أبو أسعد) وطاقم فيلمه جرأة الحديث عن إنتاجهم وأنفسهم وردود فعل عملهم؟، وكيف رسخت نبرات صوته في ذهنى وهو يسخر في المؤتمر الخاص بالفيلم من الغضب الإسرائيلي على (عمر) ويتساءل متهكماً: (هل كانوا يريدون منى إنتاج فيلم ضد الصومال)؟
* تحققت الإرادة لصناع السينما الفلسطينية فقالوا كلمتهم بصوت عال و(أبناء جاد الله جبارة) لا حس لا خبر.. قفزت السينما الإيرانية بالزانة بينما يتحول عندنا مخرج سينمائي مهول الإمكانيات كعبادي محجوب للبحث عن (لقمة عيشه) خلف (ديسك) الإخراج التلفزيوني.. تسيطر دبي بمهرجانها الذي أضحى قبلة للنجوم على (بورصة الأحداث السينمائية)؛ وتلحق بها أبو ظبي وتنطلق الدوحة؛ ويعود الألق للقاهرة بينما تتكسر أحلام مخرجنا السينمائي سعيد حامد في إنعاش السينما السودانية بتسويف المسؤولين تارة وعدم الاهتمام تارة أخرى..!
* تتصاعد الأحداث داخل القاعة تباعاً وتتسمر الحواس مع (عمر) الذي بات جبلا من إصرار بعد أن وصل وعيه الوطنى سدرة منتهي الإصرار، والحبكة السينمائية العالية تجمد لهيب تساؤلات ومرارات الواقع السوداني بعد أن تحول عندنا (الفن السابع) إلى (فن ضائع)، وفي غمرة التعايش مع أحداث الفيلم تنكئ (عيننا الصحافية الطايرة) الجرح من جديد عندما تلمح المخرج الكويتي خالد الصديق الذى أخرج لنا سينمائياً رائعة (عرس الزين) قبل حوالي أربعين عاماً.. فيا ترى أين نحن الآن..؟؟
* ما بين خيبة الأمل وتقلص مساحات التفاؤل للتدهور الاقتصادي وغلاء الأسعار، ونجاح فيلم (عمر) ووجود السينما الفلسطينية في المحافل العالمية في ظل موت مبكر للسينما السودانية يكمن القاسم المشترك الأعظم لتحقيق معادلات النجاح أو السقوط فشلاً في توفر الإرادة من عدمها، ونحن للأسف تنقصنا الإرادة السياسية والاقتصادية ولا نحلم قريباً ببزوغ شمس إرادة فنية..!!
*.. والإرادة وحدها تدفعني هذه المرة لوقف نزيف الخواطر والعودة لمتابعة فيلم (عمر) الذى أوشكت (تترات) نهايته على معانقة أعين الجالسين بينما ظللت أشغل نفسي وإياكم بحزمة هموم قادتنا للعجب.. (والله يجازي الكان السبب)..!!
نفس أخير
* المشاكل المعروضة مجرد (عناصر) بينما الأزمة (سبيكة واحدة)!
اليوم التالي