حسناً.. هناك اتجاه لتأمين المستشفيات وإنشاء شرطة خاصة لحماية الكادر الطبي، بمثلما حدث في الجامعات بعد إلغاء الحرس الجامعي وإنشاء شرطة الجامعات، ونتوقع بعد تكرار الاعتداء على الدور الصحفية والصحفيين إنشاء شرطة لحماية الصحافة، ثم شرطة لحماية مهندسي البترول، وشرطة لحماية أصحاب الحافلات….الخ. هذا هو الحل الساهل والجاهز، نحول المستشفيات لثكنات عسكرية، الحل الجاهز هو العسكرة، الولاة والمعتمدين، ثم ربما مديري المستشفيات والجامعات، والحبل يمتد.
لماذا يعتدي المواطنون على الأطباء؟ لأن لديهم مريض لم يجد الرعاية والعناية الكافية، فلقي ربه في المستشفى، ويختلط الحزن والغضب فينصرف الفعل ناحية من هم في الواجهة، صغار الأطباء الذين شاء حظهم أن يكونوا موجودين. في الغالب الأعم سيكونون من أطباء الامتياز أو نواب الاختصاصيين، يعملون وردية كاملة بلا لحظة راحة، وبلا إمكانيات ضروورية لإنقاذ حياة الناس، لكنهم يفعلون ما يستطيعون فعله.
المستشفيات حالتها سيئة، تنقصها الأجهزة والأدوية والمعدات الضرورية، وقد يكون حجم الكادر الطبي أقل مما يجب، وأقسام الحوادث صارت معدودة وتواجه كثافة عالية من المرضى. يبحثون عن الأكسجين المنقذ للحياة فلا يجدونه، والأدوية والمعدات غير موجودة، فمن يتحمل مسؤولية هذه الجريمة؟
الذين يضعون السياسات الصحية، والمسؤولون التنفيذيون، من وزير الصحة لإدارات المستشفيات، هم من يجب أن يتوجه نحوهم الغضب. الذين اقتلعوا العلاج المجاني من الفقراء والمساكين وجعلوهم يتسولون الإعانات من ديوان الزكاة والمحسنين، أعطوهم أو منعوهم، والذين “شلّعوا” المستشفيات، وجعلوا بعضها خرابات ينعق فيها البوم. هؤلاء هم المسؤولون عن الحالة المتردية التي نعيشها اليوم، وليس الأطباء الذين هم أيضاً ضحايا لهذه السياسات.
لكن نوع الغضب الذي نتحدث عنه ليس ذلك المتجه ناحية الأشخاص باستخدام العنف وأخذ القانون باليد، لكنه غضب إيجابي يعبر عن نفسه بشكل منظم وفعال. نحتاج لحركة اجتماعية كبيرة تضغط لتحسين وضع الصحة في الميزانية العامة ورفع مخصصاتها، ومراجعة السياسات الصحية التي أفقرت المستشفيات العامة وأضعفتها وجردتها من الإمكانيات لصالح المستشفيات الخاصة التي لا يقدر الفقراء على تبعاتها المالية.
لايمكن لبلد ترتفع فيه نسبة الفقر والأمية بشكل كبير، وتكثر فيه الأمراض، وتعجز الدولة عن توفير مياه الشرب النظيفة، أن تكون الميزانية المخصصة للتعليم والصحة بهذه الضآلة. وبالمناسبة وجدت كثيراً من المقالات التي تقارن ميزانية الصحة والتعليم بميزانية الأمن والدفاع، فإذا الفرق شاسع جداً، لكني فشلت في العثور على النص الرسمي للموازنة العامة للدولة لهذا العام في كل المواقع. موقع وزارة المالية لا يعمل، وموقع البرلمان لا توجد فيه ميزانية هذا العام، رغم أنها تصدر بقانون من البرلمان، ولا بنك السودان ولا بوابة السودان الاليكترونية.
فليحول الناس هذا الغضب لعمل على الأرض، يتم بشكل سلمي ومدني منظم، يطالب بميزانية صديقة للتعليم والصحة، وتغيير السياسات الصحية في البلاد ومراجعة تجربة التأمين الصحي، وإعادة الأقسام التي تم تجفيفها ببعض المستشفيات، ورفع مرتبات الكوادر الطبية، وإعادة تأهيل المستشفيات الحكومية.
هذا هو الطريق الأسلم والأصح، الطريق الآخر سيؤدي لتدمير المستشفيات، وتشريد الكوادر الطبية ودفع المزيد منها للهجرة، وامتلاء السجون بأهل المرضى والموتى الغاضبين، فما الفائدة منه.
فيصل محمد صالح
الصيحة