تحوّل يوم أمس الجمعة إلى محطة إضافية في الحرب الكلامية الروسية الأميركية على وقع تصاعد المعارك في مدينة حلب من جهة وتزايد الضغوط على روسيا من جهة ثانية. على الرغم من ذلك بدا أن روسيا تعمل ضمن مسارين متزامنين، فبينما عمدت إلى الدفاع عن نفسها وسَوَق المبررات لتدخلها المتواصل في سورية، والذي دخل أمس عامه الثاني على وقع إحصاءات تشير إلى مقتل 9364 شخصاً بينهم 3804 مدنيين في سورية جراء الغارات التي تشنها روسيا، وفق ما أفاد المرصد السوري لحقوق الإنسان الجمعة، فإن موسكو كانت حريصة أمس على التأكيد أن “لا إطار زمنياً للعملية الروسية” في سورية، فضلاً عن زيادتها القوة الجوية المشاركة في الميدان السوري، ما يشير بوضوح إلى أن روسيا تخطط لإطالة أمد الحرب في سورية. جاء ذلك في الوقت الذي لا تزال فيه الولايات المتحدة تتحدث عن البحث في خيارات جديدة، فيما استغلت موسكو صمت واشنطن لساعات طويلة يوم أمس لتقديم روايتها للأحداث وتصعيد لهجتها تجاه واشنطن.
وفي مؤشر واضح إلى سعي روسيا لإطالة أمد الحرب السورية، أعلن المتحدث باسم الكرملين، ديمتري بيسكوف، أمس الجمعة، أنه لا يوجد إطار زمني لعملية روسيا العسكرية في سورية. وقال بيسكوف، خلال مؤتمر صحافي عبر الهاتف، إن “النتيجة الرئيسية لضربات روسيا الجوية ضد المتشددين الإسلاميين في سورية على مدى العام المنصرم هي عدم وجود الدولة الإسلامية أو القاعدة أو جبهة النصرة الآن في دمشق”.
ديمتري بيسكوف: لا يوجد إطار زمني لعملية روسيا العسكرية في سورية
كذلك كشفت صحيفة “إزفستيا” الروسية أمس أن موسكو عززت قاعدتها الجوية في سورية بعدد من قاذفات القنابل وتستعد لإرسال طائرات هجوم أرضي إلى هناك. ونقلت الصحيفة عن مسؤول عسكري روسي قوله إن عدداً من المقاتلات من طراز “سوخوي-24″ و”سوخوي-34” وصلت إلى قاعدة حميميم الجوية. وأضاف المسؤول “إذا دعت الحاجة ستعزز القوة الجوية خلال يومين أو ثلاثة أيام”.
ويأتي الموقف الروسي المجاهر بالرغبة في استمرار الحرب ودعم نظام الأسد في الوقت الذي تكتفي فيه الولايات المتحدة، حتى الآن، بالتلويح باستعدادها لتبني خيارات جديدة في سورية بعدما كانت تصريحات وزير الخارجية الأميركي جون كيري، أول من أمس، والتي أكد فيها أن واشنطن على وشك تعليق المحادثات مع روسيا بشأن وقف إطلاق النار في سورية، قد شكلت إشارة واضحة إلى أن فرص استمرار التعاون الروسي الأميركي في ما يتعلق بسورية تكاد تكون معدومة.
ووفقاً لمتابعين للملف السوري، فإنه لا يمكن الحديث عن أي توجه أميركي جديد في مقاربة الملف السوري قبل الإعلان رسمياً في واشنطن عن توقيف المحادثات مع الروس بشأن سورية، وهو ما يبدو أنه كان ينتظر جولة المحادثات الجديدة بين كيري ونظيره الروسي سيرغي لافروف أمس الجمعة. وفي محاولة لإظهار مدى تردد الولايات المتحدة في حسم خياراتها السورية، بادر لافروف أمس إلى الإعلان عن أنه من المقرر أن يتواصل مع كيري الجمعة، بعدما أعلنت الخارجية الأميركية عن إجراء وزيري الخارجية محادثات هاتفية غير معلنة يوم الخميس. وبحسب الرواية الروسية، أبلغ لافروف كيري، خلال الاتصال، بأن موسكو لا تزال منفتحة على الحوار مع الولايات المتحدة بشأن جميع القضايا الرئيسة للتسوية في سورية، كما أفادت الخارجية الروسية في بيان، مشيرة إلى أن الوزيرين بحثا إمكانية العمل معاً لتطبيع الوضع في مدينة حلب السورية.
في موازاة ذلك، شن لافروف هجوماً جديداً على الولايات المتحدة أمس مع اعتباره “تصريحات الخارجية الأميركية حول العواقب المحتملة لعمليتنا في سورية تهديداً غير مقبول”. كما كرر لافروف نفس الاتهامات في مقابلة مع قناة “بي بي سي” بقوله إن عدداً متزايداً من الدلائل يدفع موسكو للاعتقاد أن واشنطن خططت منذ البداية لتجنيب “النصرة” (جبهة فتح الشام حالياً) الضربات لاستخدامها لاحقاً لإسقاط نظام الأسد. وقال لافروف: “في إطار مجموعة دعم سورية أخذت واشنطن على عاتقها التزام فصل المعارضة عن الإرهابيين، لكنها لم تقدر على القيام بذلك حتى الآن. وهناك عدد متزايد من الدلائل يدفع بنا للاعتقاد أن خطتهم (الأميركيين) منذ البداية كانت تكمن في تجنيب النصرة الضربة، والحفاظ عليها احتياطاً لاستخدامها في خطة “ب” عندما سيحين الوقت لتغيير النظام”، على حد وصفه. وقال إن “واشنطن لم توجّه أبداً أي ضربات إلى مواقع النصرة”. واعتبر لافروف أن الاتفاق الروسي الأميركي حول سورية “سيأتي بثماره في حال نجاح مهمة الفصل بين المعارضة والإرهابيين”.
وكانت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا قد أعربت عن دهشتها من إعلان المتحدث باسم الخارجية الأميركية جون كيربي عن المكالمة الهاتفية التي جرت الخميس بين كيري ولافروف، مشيرة إلى أن الوزير الأميركي كان قد طلب عدم الإعلان عن هذه المكالمة. وأعلنت أن “هذه المكالمة، مثل الأغلبية الساحقة من المكالمات الأخرى بين الوزيرين، جرت بمبادرة الجانب الأميركي”.
وكانت التسريبات المتتالية من قبل مسؤولين أميركيين على غرار ما نشرته وكالة “رويترز” أول من أمس أيضاً، والتي أشارت إلى أن من بين الخيارات التي تُدرس إمكانية السماح بتزويد المعارضة بأسلحة أكثر تطوراً أو توجيه ضربة جوية أميركية لإحدى قواعد النظام الجوية، فضلاً عن تصريحات أخرى في وسائل إعلامية أميركية، قد أظهرت طبيعة الخيارات العسكرية والسياسية التي قد تلجأ إليها الإدارة الأميركية.
وفي السياق، تحدث المدير السابق لوكالة الاستخبارات الأميركية “سي آي إيه”، ديفيد بترايوس، عن أن الأوان لم يفت بعد لإقامة منطقة آمنة أو منطقة حظر الطيران لوقف قصف روسيا والنظام في سورية. وأضاف في مقابلة تلفزيونية يوم الأربعاء الماضي “الناس يتساءلون: هل فات الأوان؟ والجواب هو لا، لم يفت بعد”. وجاءت هذه التصريحات بينما تتزايد الدعوات للجوء الولايات المتحدة إلى اعتماد خيارات جديدة في سورية عقب تعمد النظام وروسيا إسقاط الاتفاق الأميركي الروسي الذي تم التوصل إليه قبل أسابيع، خصوصاً بعد إفشال تنفيذ البند الأول والمحوري والمتمثل بالالتزام بهدنة متواصلة لسبعة أيام، فضلاً عن عرقلة إيصال المساعدات الإنسانية إلى المناطق المحاصرة، خصوصاً في حلب.
وفي السياق رأى منسق الإغاثة في حالات الطوارئ بالأمم المتحدة ستيفن أوبراين أن على القوى الكبرى أن تتحد لوقف المذابح في سورية؛ لأن انهيار جهود السلام الأميركية الروسية سيعطل عمليات الأمم المتحدة التي تهدف لإنقاذ الأرواح. وأضاف أوبراين لوكالة “رويترز” أن هناك حاجة إلى هدنة إنسانية مدتها 48 ساعة كل أسبوع لتوصيل الأغذية والمستلزمات الطبية إلى شرق حلب وإجلاء المصابين وأعدادهم كبيرة. وأكد أن هناك حاجة إلى ضمانات أمنية من جميع الأطراف لاستخدام طريق الكاستيلو أو طريق آخر للوصول إلى شرق حلب المحاصر. وكشف أوبراين أنه من المقرر أن يعلن الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون قريباً خططاً لإجراء تحقيق مستقل في هجوم على قافلة مساعدات في غرب حلب في 19 سبتمبر/أيلول الماضي أسفر عن مقتل 20 شخصاً.
ومع اليوم الأول من السنة الثانية للتدخل الروسي في سورية، ضاعفت روسيا من كثافة طلعاتها الجوية على القسم الشرقي المحاصر من مدينة حلب، بالتزامن مع محاولة النظام شن هجوم بري محدود من محور حي سليمان الحلبي بهدف الوصول إلى محطة ضخ المياه في الحي ومنع المياه عن المدنيين في الحي.
وقال عضو الهيئة العليا للمفاوضات جورج صبرا في حديثٍ لـ”العربي الجديد” إن “الروس يستغلون فرصة عدم التوصل إلى اتفاق، للانفراد في قصف مدينة حلب ومنع الحياة فيها”، معتبراً أن قصف المستشفيات والمخابز والمراكز الطبية هدفه الوحيد تهجير أبناء حلب من مدينتهم.
وأضاف صبرا: “الروس وضعوا يدهم على الملف الإغاثي وقاموا بقصف القوافل الإغاثية وهذا الفعل يُعتبر انتهاكاً صريحاً لقانون الأمم المتحدة الذي شارك الروس في صياغته. واعتبر أن الاتفاق الروسي الأميركي لم يعد صالحاً؛ لأن الروس نقضوا الاتفاق أكثر من مرة، داعياً الولايات المتحدة والأمم المتحدة إلى تقديم مقاربة جديدة لمعالجة الوضع في حلب وسورية عموماً، قائلاً: “لا نرى أي أفق لتجديد الاتفاق الروسي الأميركي حول وقف إطلاق النار”.
صبرا: لتقديم سلاح نوعي ومضاد طيران لمواجهة الهجوم الذي تشنّه روسيا ونظام الأسد على المدنيين في حلب
وطالب صبرا بتقديم سلاح نوعي ومضاد طيران لمواجهة الهجوم الذي تشنّه روسيا ونظام الأسد على المدنيين في حلب، موضحاً أن “بيانات شجب العدوان الروسي والتضامن مع الشعب السوري لم تعد مقبولة اليوم، فالمطلوب تسليح الثوار للدفاع عن أنفسهم وهو حقٌّ مشروع للسوريين لردع هذا العدوان”. ولفت إلى أن “إيقاف هدر الدماء في مدينة حلب لا يمكن أن يتم في هذه الأجواء، بل يتطلب هدنة عامة في كل سورية ورفع الحصار عن المناطق المحاصرة، ووضع أجندة للمفاوضات تهدف لتأمين الانتقال السياسي، وحينها يمكن أن تتم المفاوضات”. وأعرب عن أمله في أن تعزّز زيارة الطرف السعودي إلى تركيا في دعم قوى الثورة والفصائل المقاتلة على الأرض لصد العدوان الروسي، مشدّداً على أن التسليح بمضاد الطيران يعتبر عاملاً حاسماً في تغيير اتجاه المعركة.
من جهته، قال عضو الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية خطيب بدلة، إن “الولايات المتحدة تحاول الضغط على روسيا التي هي الآن بحاجة ماسّة للهدنة في هذه الأوقات”، مشيراً إلى أن أميركا تهدّد بإبطال التعاون مع روسيا كنوع من التهديد، سعياً لإعادة الاعتبار للاتفاق الروسي الأميركي الذي فشل بعد نحو أسبوع على تنفيذه.
ورأى بدلة في حديثٍ لـ”العربي الجديد” أن “الروس يحاولون استغلال الفترة الانتقالية في الرئاسة الأميركية والفراغ الرئاسي، لكسب مناطق جديدة لصالح نظام الأسد”، مُرجعاً حاجة الروس إلى الهدنة إلى كون ذلك يخرجهم من المأزق مع الولايات المتحدة، في عدة قضايا عالقة من بينها أسعار النفط والغاز والملف السوري والأوكراني.
وفي ما يخص إمكانية التوصل لاتفاق على وقف إطلاق النار في حلب، أوضح بدلة أن الولايات المتحدة قدّمت كل التنازلات اللازمة لسريان الاتفاق، غير أن روسيا عطّلت الاتفاق لأنه يؤدي إلى حظر الطيران السوري، وتحديد أماكن عمليات الطيران الروسي في مناطق تسيطر عليها “جبهة فتح الشام” وتنظيم “داعش”، وهو ما يتعارض مع هدف النظام بالسيطرة على مناطق جديدة. واستبعد أن يتمكّن التقارب السعودي التركي في إيقاف المأساة في حلب الشرقية بسبب التعقيدات الكبيرة المحيطة بهذا الملف، لكنه توقّع ان تكون هناك مشاورات بين الطرفين السعودي والتركي بهذا الخصوص.
وعوّل على الجهود الفرنسية لوقف الحملة العسكرية على حلب، قائلاً إن فرنسا ستتقدّم بطلب لمجلس الأمن لوقف الحملة على حلب وهو اختبار لصدقية الدول، معتبراً أن الأيام القليلة الماضية قد تشهد قراراً لوقف إطلاق النار من جانب فرنسا، وهو الأفق الوحيد المطروح حالياً.
ميدانياً، كثف الطيران الروسي وطيران النظام من قصفهما للقسم الشرقي المحاصر من مدينة حلب، كما قصفت مدفعية النظام معظم أحياء المدينة ما أدى إلى سقوط قتلى وجرحى وتعطل مضخة المياه في حي سليمان الحلبي. وقال مسؤول الإعلام في الدفاع المدني في حلب إبراهيم أبو الليث لـ”العربي الجديد”، إنّ النظام حاول الوصول إلى مضخة مياه سليمان الحلبي للسيطرة عليها والتحكم في ضخ المياه إلى أجزاء من أحياء حلب الشرقية وأحياء تخضع لسيطرته في القسم الغربي من حلب. وأعلنت الإدارة العامة للخدمات التابعة لمجلس محافظة حلب توقف محطة ضخ المياه في حي سليمان الحلبي عن الضخ نتيجة قصف قوات النظام لها. فيما أعلن النظام عبر وكالة “سانا” التابعة له تحقيق تقدّم ملحوظ في العمليات في حلب بالسيطرة على عدد من المباني في منطقة سليمان الحلبي.
وتزامنت محاولات الاقتحام مع قصف جوّي للطائرات الروسية وطائرات النظام، وقصف مدفعي عنيف على الأحياء الخاضعة لسيطرة المعارضة في كل من أحياء الصاخور، والحيدرية وحي الإنذارات. كما ألقت طائرات النظام براميل متفجرة على مساكن هنانو، فيما تسبب قصف روسي على حي الزيتونات التابع لمنطقة الهلك بسقوط قتلى وجرحى.
العربي الجديد