حين دلفت إلى القاعة الدائرية بمقر الأمم المتحدة بجنيف لحضور تقرير السودان حول أوضاع حقوق الإنسان.. كانت ولا تزال قناعتي أننا في حاجة لإرادة سياسية حقيقية لنقل حالة حقوق الإنسان في السودان مما هي عليه من علة إلى التعافي والإصلاح.. أما الأجواء العامة هناك فقد كانت تتوقع صراعا عنيفا خاصة بعد أن رشح أن نحو أكثر من ثلاثين دولة قد حجزت مقعدها للإدلاء بدلوها عن حالة حقوق الإنسان في السودان.. سبحان الله.. وحين انعقد الاجتماع أو بالأحرى اللقاء التفاعلي مع مقرر حقوق الإنسان عن الأوضاع في السودان.. كما تسميه المحاضر الرسمية للأمم المتحدة.. كان من السهل جدا تتبع.. بل توقع سير اتجاه النقاش.. فأربع إفادات رئيسة بدأت بها الجلسة كانت كافية لتوجيه الحوار.. بل وقيادته.. الأولى أدلى بها المقرر الخاص لأوضاع حقوق الإنسان في السودان.. الذي يمكن تلخيص إفادته في أن السودان قد فعل كل شيء.. ولكنه لم يفعل أي شيء.. أعرب الرجل عن تقديره للجهود التي يبذلها السودان.. عدّد شواهد.. ثم أعرب عن قلقه عن أوضاع حقوق الإنسان في السودان.. ذكر شواهد أيضا.. أعقبه بالإفادة الثانية السيد وزير العدل مولانا عوَض الحسن النور.. الذي فاجأ المقرر والقاعة بقوله إن التقرير انصرف عن مهمة المقرر الأساسية.. وهي تقديم الدعم الفني كما ينص البند العاشر وراح يناقش مسائل في بنود أخرى.. وأنهى الوزير إفادته بقوله.. السودان لم يتلق أي دعم فني يعينه في إنجاز المهام المطلوبة منه.. أما الإفادة الثالثة فقد جاءت من لدن مندوب الاتحاد الأوروبي الذي يمكن القول بإيجاز إنه نحا منحى المقرر فعبر عن قلقه عن الأوضاع في السودان.. أما الإفادة الرابعة فقد دفع بها مندوب جنوب أفريقيا الذي تحدث باسم المجموعة الأفريقية.. ولم يكن المراقب في حاجة لبذل جهد يذكر ليخلص إلى أن المجموعة الافريقية نحت منحى الوزير.. منددة بتقصير المقرر والمانحين والأمم المتحدة في تقديم الدعم الفني.. معربا في ذات الوقت عن تقديره لجهود السودان.. ولئن سألتني: كيف سارت الجلسة التفاعلية بعد ذلك..؟ أقول لك بكل اطمئنان.. إن سيماء المتحدثين بعد ذلك كانت وفق التوزيع الجغرافي.. فكل المجموعة الأوروبية أعربت عن قلقها.. جريا على موقف المقرر ومندوب الاتحاد الأوروبي.. أما المجموعة الأفريقية.. ومعها العربية بالضرورة.. فقد أعربت عن تقديرها تعاطفا مع الوزير.. ثم تمشيا مع موقف ممثل المجموعة الأفريقية.. هذا لا يعني أنه لم تكن هناك مفاجآت.. فألبانيا كانت مختلفة.. انشغالها ليس بالانتهاكات والخروقات التقليدية المحفوظة عن ظهر قلب في هكذا مواقف.. كلا.. فمندوبها رأى أن ختان الإناث.. تجنيد الأطفال.. قضايا مهمة تهدد حقوق الإنسان في السودان.. ثم وكأنها تعتذر للسودان أو عن السودان.. أشادت بتحمل السودان لعبء استضافة الآلاف من مواطني البلدان المجاورة.. ولكنها تعود لتختم بلغة مغايرة تماما.. فثمة حديث عن ضرورة محاسبة كل من تسبب في انتهاكات حقوق الإنسان في السودان..! كانت من المفاجآت كذلك.. أن إسبانيا تراهن علي مؤتمر الحوار الوطني في أكتوبر المقبل لتحقيق التحول الديمقراطي..!
كان لافتا أيضا أنه ورغم الحملة الإعلامية الشرسة التي تستعر بين القاهرة والخرطوم على خلفية قرار حظر دخول المنتجات الغذائية المصرية إلى السودان.. إلا أن مرافعة المندوب المصري جاءت قوية ومعبرة عن رفض كامل لتقرير المقرر.. ويبدو أن علاقات الدكتور مصطفى عثمان مندوب السودان لدى جنيف بدأت تثمر..!
أما من المفارقات، فإذا كانت كوريا الجنوبية قد بلغت حد اتهام المقرر الخاص بعدم الحياد والتواطؤ مع أجندة خاصة.. فإن سويسرا التي عرفت بالحياد قد بلغ بها الحد أن طالبت بإشراف دولي على أوضاع حقوق الإنسان في السودان..!
أما آخر المفاجآت فقد كانت إفادة واشنطن التي عبرت عن القلق عن تردي أوضاع حقوق الإنسان في السودان.. ولكنها انتهت إلى التأكيد على ضرورة حشد الدعم الفني لمساعدة السودان.. وليس حشد قوات للتدخل تحت أي بند آخر.. وكأن المندوبة الأمريكية أرادت أن تقول: لقد قبلنا التسوية..!
محمد لطيف
اليوم التالي