من أين يأتي الإلهام؟

لماذا تطفو من اللاشعور في لحظة معينة فكرة أصيلة في العلم أو الفن؟ كيف يصل العقل فجأة إلى إجابة مسألة معقدة حيرتنا لفترات طويلة؟ تبدو المشكلة للوهلة الأولى مستحيلة الحل، لكن بعد الكثير من البحث والتفكير، يظهر لنا الحل بطريقة سحرية من حيث لا نتوقع، من مكان يحفه الكثير من الغموض. فما هو الإلهام؟ وكيف يحدث؟ وهل يتمتع به بعض الناس دون غيرهم؟ يستعرض هذا التقرير ما كتبته «ماريا كونيكوفا» لمجلة «ذي نيويوركر» حول هذا الموضوع.

يدرس «مارك بيمان» عالم الإدراك العصبي بجامعة نورث ويسترن «الإلهام» كأحد أهم العوامل التي تدلنا على الكيفية التي تعمل بها العملية الإبداعية. الإبداع بشكل عام مهتم دائمًا بسؤال كيف تأتينا الأفكار الجديدة؟ الإلهام، على الرغم من أهميته، هو مجرد خطوة في طريق العملية الإبداعية. يبدو أن الإلهام يحدث عندما يقترن بعمل تحليلي جاد. ليس بوسع أحد أن يكتشف النظرية النسبية في حلم، إذا لم يكن فيزيائيًّا قام بالدراسة، والبحث، والتحليل كثيرًا حول نفس الموضوع مسبقًا.
الإبداع طريقة تفكير.. أم منتج؟

لفترات طويلة بقي تعريف الإبداع في علم النفس ضبابيًّا وغير واضح، ومستعصيًا على الصياغة الدقيقة. إذا افترضنا أن الإبداع هو أن تأتي بشيء جديد للعالم، إذًا سيكون المبدعون هم العلماء والفنانون والكتاب والموسيقيون، ومن يضيفون للعالم جديدًا. لكن الدكتور «جون كونيوس» أستاذ علم النفس بجامعة «دركسل» يعتبر هذا الرأي خاطئًا، أو على الأقل ليس صحيحًا تمامًا. يرى «كونيوس» أن الإبداع متعلقٌ بطريقة التفكير، وليس بالنتيجة النهائية. لشرح فكرته يضرب «كونيوس» مثالًا. إذا افترضنا أن هناك شخصًا لا يعرف شيئًا عن وجود مشابك الأوراق، وكان يعاني من بعثرة أوراقه على مكتبه، ثم وجد طريقة ما لتجميعها سويًا، فإن هذا الشخص يعد مبدعًا جدًّا، وما قام به يعد عملًا جديدًا وخلاقًا. على الجانب الأخر، لنفترض أن ثمة شخص يعمل في مجال جديد بالكلية، مثل النانوتكنولوجي. إن أي شيء ينتجه قد يسمى بطبيعته إبداعًا، لأنه جديد، المجال بالكامل جديد. لكن هل عملية خلق ذاك المنتج تعد إبداعية؟

ليس كل الفنانين مبدعين، لكن هناك محاسبين مبدعين للغاية. -«جون كونيوس»

يعتبر «بيمان» الإلهام أقل صعوبة في تعريفه ودراسته، لأنه يحدث في لحظة بعينها يمكن عزلها وفحصها وتحليل خصائصها. الإلهام هو جزء فقط من العملية الابداعية، لكنه قابل للقياس. لدى العلماء مؤشرات محددة تخبرهم أن هناك شيئًا معينًا حدث في العقل خلال لحظات الالهام. عندما يدرس العلماء لحظات الإلهام في المختبرات، فإنهم يهتمون بمعرفة الحالة والظروف التي تؤدي إلى هذه اللحظات من الاستبصار والتجلي. هذا يعني أنه قد يتمكن العلماء من تعريف طريقة أو وضع قواعد وخطوات تساعدك أن تكون أكثر إبداعًا في حال كنت تواجه مشكلة.
هل يمكن لنمط من التفكير أن يحفز الإبداع؟

في دراسة حديثة، تتبع «بيمان» و«كونيوس» نظرات الناس وهم يحاولون حل أحد الاختبارات التي تحدد الإمكانات الإبداعية للإنسان. يعرض العلماء على المشاركين في الاختبار سلسلة من الكلمات، وعليهم التفكير في كلمة واحدة فقط، يمكنها أن تقترن بالكلمات السابقة بشكل منطقي. مثلًا عليه أن يجد كلمة تناسب جميع الكلمات الآتية: «صنوبر»، «مرق»، «فاكهة». أراد الباحثون أن يعرفوا إذا كانت ثمة علاقة بين اتجاهات أعين الأشخاص، ومعدل وميضها وبين طريقة التفكير واحتمالات نجاحهم. تبين أن الذين ينظرون إلى كلمة بعينها -مثلًا: صنوبر- ويركزون عليها، يكونون أكثر ميلًا للتفكير بطريقة تحليلية في نطاق ضيق، بحيث يفكرون في الاحتمالات المنطقية لكلمة واحدة، وبالتالي ينبذون أي احتمالات أخرى. عندما ينظر الشخص للكلمات الثلاث، ويتوقف عن التركيز على كلمة واحدة -أي يقوم بتحريك عينيه والوميض المتكرر- في هذه الحالة يصبح أكثر ميلًا للتفكير بشكل أوسع، وأكثر تجريدًا. هذا النمط يؤدي إلى حدوث الاستبصار والإلهام.

ليس عليك أن تتعلم التحديق فقط، ولكن أن تنظر أيضًا خارج حدود تركيزك. -«مارك بيمان»

استطاع «بيمان» وفريقه توقع كيف يمكن لشخص حل مسألة ما، ومتى يكون قد اقترب من الحل، عن طريق اتباع حركة العين وقياس معدل وميضها والوقت الذي تأخذه العين كي تنغلق أو تركز على شيء آخر. ليست هذه الدراسة الوحيدة التي وصلت إلى نمط بعينه يمكن اتباعه للوصول إلى الفكرة الأصيلة. أبحاث أخرى وصلت لنتائج مماثلة يمكن تدريب الأفراد عليها. يعتبر «بيمان» نوع التركيز الذي يوليه الشخص للمسألة عندما يتعرض لها، وعندما يبدأ في حلها، مهمًا بشدة. يعد هذا أحد الاعتبارات المهمة لمن يرغبون في تنمية قدراتهم الإبداعية، لأنه يساعد على فهم كيف يمكن للأنماط المختلفة من التركيز أن تسهم في ظهور أنواع معينة من الإلهام.
كيف يؤثر الكافيين على لحظات الإلهام؟

يساعد تناول الكافيين الجزء الخاص بالتحليل في العملية الإبداعية، لكنه يعرقل الجزء الخاص بالإلهام. فهو يشحذ التركيز مقابل تعطيل القدرة على التفكير بشكل واسع ومستفيض. مع ذلك فالناس يتناولون القهوة باستمرار لتحسين قدرتهم على العمل وحل المشكلات. كيف يحدث هذا؟

الوقت هنا عامل مهم وحاسم، يمكن تطويع القهوة لكي تعمل في صالح الإلهام عن طريق اختيار الوقت المناسب لتناولها. مثلًا إذا لم تكن منتبهًا بشكل جيد أثناء محاولة حل المشكلة، سيكون حدوث الاستبصار أصعب، لأنك لم تنخرط بشكل كافٍ في عملية الاستيعاب والتحليل. عليك أن تأخذ وقتك في فهم جميع جوانب الموضوع جيدًا، قبل السماح لعقلك بالشرود بعيدًا بحثًا عن إجابة. بعبارة أخرى، تناول فنجانًا من القهوة أولًا، ثم اذهب في نزهة، أو استحم، أو استرخ قليلًا لتفكر في الحل، عندها تكون على ثقة بأنك لن تفقد أي جزء من تفاصيل المسألة.
هل يمكن أن يلعب الحظ دورًا؟

يحاول «بيمان» وزملاؤه الآن معرفة إذا كانت النتائج التي توصلوا إليها يمكن تطبيقها أيضًا على الأشخاص الذين أنتجوا بالفعل أعمالًا إبداعية. لكي يتأكدوا من هذا يقومون بإجراء اختبارات على الأشخاص المحترفين بالفعل في المجالات التي تعرف بكونها تعتمد على الإبداع. الهدف هو معرفة إذا كانت عقول هؤلاء المحترفين تمر بنفس الخطوات اللي يمر بها غيرهم أثناء العملية الإبداعية. يقول «بيمان» نحن لا يمككنا دراسة كيف أصبحوا مبدعين، ولكن يمكننا أن نرى كيف تعمل عقولهم.

بالطبع هناك أجزاء من العملية الإبداعية لا يمكننا تكرارها مرة أخرى في المعمل، مثل «الحظ»، يمكن أن يكون لدى شخصين نفس الفكرة، لكن أحدهما استطاع أن يشهرعنها في الوقت المناسب، ليحصل بها على التقدير والمكافأة من قبل المجتمع. هناك أيضًا مشكلة أخرى تواجه الباحثين عند محاولة إيجاد نمط للحظات الإلهام. تعتمد هذه اللحظات أحيانًا على عوامل عادية وغير متوقعة تمامًا، مثل خبرات الأشخاص، وما تعرضوا له في حياتهم.

كثيرًا ما ينسى الناجحون أن بعض نجاحاتهم تأتي نتيجة حظ أحمق. -«مارك بيمان»

لذا ليس من الممكن أن يتنبأ الباحثون من ستكون ماري كوري القادمة، أو من سيبتكر واتس آب القادم، لكننا قادرون على تعلم ما يكفي عن الطريقة التي تسير بها العملية الإبداعية نفسها، ما يجعلنا قادرين أيضًا على تطبيقها على طريقة تفكيرنا لنصبح أكثر إبداعًا، حتى لو على نطاقات صغيرة، لكن مؤثرة وذات قيمة. لن تفوز بجائزة نوبل لأنك رتبت غرفتك أو خزانة ملابسك بشكل أفضل وأكثر فاعلية، لكنه أمر مهم لحياتك اليومية. يعتبر «بيمان» الإبداع في شئون الحياة اليومية على نفس القدر من الأهمية في حل مشاكل الحياة.

ساسة بوست

Exit mobile version