قبل عدة سنوات؛ تلقيت مكاملة هاتفية (في عز الليل.. ساعة النسمة ترتاح على هدب الدغش).. المتحدث أخبرني أنهم داخل مستشفى خاص.. في فورة غضب لموت إبنهم الشاب أثناء عملية جراحية..
ذهبت فوراً إلى المستشفى.. كان المشهد خطيراً إلى أبعد درجة.. قوات الشرطة تنتشر في الطابق الأرضي وفي الطابق الثاني الذي يضم حجرة العمليات.. من الوهلة الأولى لاحظت أن أي شيء قابل للتحطيم قد تحطم.. حتى أنبوب الأوكسجين الصلب كسروا عنقه.. حجرة العمليات احتلها الغاضبون يتوسطها على سرير العملية جثمان إبنهم الفقيد.. وكل الأجهزة الطبية الثمينة فيها دُمرت.. سألت أهل المريض لماذا ارتكبوا هذا العنف الكاسح.. فسردوا لي قصة محزنة للغاية..
إبنهم الشاب كان بين يدي الجراحين في حجرة العمليات.. خرج الطبيب وبارك لهم نجاح العملية.. النشوة دفعتهم لتوزيع الحلوى على كل من بالمستشفى.. ومن فرط الاطمئنان ولأن الليل أوغل تحرك غالبية الأهل عائدين إلى بيوتهم بعد أن اطمأنوا على إبنهم الشاب..
فجأة ينتبه أحدهم إلى حركة غير عادية في حجرة العمليات.. ليكتشفوا أن ابنهم غادر الحياة منذ فترة أثناء العملية.. وأن الطبيب أبلغهم بنجاح العملية ليفسح المجال لخروجه سالماً قبل أن يكتشف ذوو المريض موت إبنهم.. فكانت الثورة العارمة التي دمرت المستشفى.. شرارتها الأولى إحساس أهل المريض بالخديعة والتضليل المتعمد..
أمس الأول وفي مستشفى أمدرمان تكرر مشهد أصبح مألوفاً.. مرافقون لمريض يعتدون على الأطباء والكوادر الطبية الأخرى.. وهذه المرة أضافوا لهم بعض المرضى.. بعد أن فارق إبنهم الشاب الحياة في المستشفى.. وبكل يقين وقود الاحتراق في الحدث ربما وفرته أحاسيس ذوي المريض أن المستشفى لم يكن قادراً على توفير ما يلزم من عناية طبية.. وقد يكون التقصير حقيقة أو متوهماً!!
وسيستمر مسلسل الاعتداء على الأطباء في السودان لتصبح مهنة الطب بخطورة الخطوط الأمامية في جبهات الحروب..
ما الحل؟.. بكل يقين ليس في تعزيز الحماية والإجراءات الأمنية.. فهذا لم يكن حال مستشفياتنا في الماضي.. فلم نسمع بأطباء يضربون ولا مستشفيات تحطم.. الحل في مسارين.. تعزيز إمكانيات مؤسساتنا الطبية خاصة في الإسعاف والطوارئ والعمليات الجراحية.. لأنها بالتحديد مواقع المعارك والاعتداء.. وفي المسار الآخر.. وهو الأهم.. تعديل النظام (System) الذي تعمل به مؤسساتنا العلاجية.. فالواضح أن أطباءنا مؤهلون وقادرون وراغبون في تقديم أفضل خدمة.. لكن (إدارة!) وسياسات العمل الطبي في مؤسساتنا العلاجية متروكة دائماً لمحاسن الصدف.. ولهذا مع كل مريض جيش جرار من المرافقين الذين يدركون أن عليهم مهام جسيمة تبدأ من البحث عن الطبيب ثم حمل المريض من مكان إلى آخر للتشخيص.. واحضار الأدوية ومهام أخرى عند الطلب..
وإذا استمرت عقلية الحل على غرار (شرطة الجامعات) فتنشأ (شرطة المستشفيات) فسيأتي يوم تنشأ فيه (شرطة المدارس) وبعدها (شرطة المساجد) إلى أن نصل مرحلة (شرطة رياض الأطفال)..!!
التيار