محمود الدنعو

سأم المواطن س

يحكى أن المواطن (س) هو ذلك الرجل الذي تعرفونه جميعا، (س) الذي يعبر الشارع قريبا منكم، والذي يجلس جواركم في المواصلات ساهما، والذي تجدونه يرتشف القهوة صامتا قرب بائعة شاي تحت ظلال أي شجرة أو حائط أو تحت شمس هذه البلاد، (س) الذي يشرب الماء القراح، ويأكل تلك الوجبة المسماة (سخينة)، والذي يقف فجأة في وسط الشارع مرتبكا يفتش جيوب بنطلونه وقميصه؛ ويخرج أوراقا نقدية من الفئات الصغيرة ومن العملات المعدنية، يقوم بعدها ومراجعتها أكثر من مرة قبل أن يعيدها بحرص شديد وبتوزيع دقيق إلى جيوب بنطلونه وقميصه، وهو (س) نفسه الذي قد يفاجئك ذات مرة بأنه مدخن شره لسجائر البرنجي، أو وهو يكور سفة سعوط، الذي تراه يضحك، يسب، يبتسم، يعرق، يهرول، يتأنق، يتعطر، يخرج (مبهدلا) وأشعث، حليقا.. أو مثلما تصادفونه بمختلف تقلباته الشخصية والحياتية.. عموما هو (س) الذي تعرفون.
قال الرواي: لقد سئم المواطن (س) من كونه المواطن (س)، والسأم هو الممل والضجر و(القهر) والبؤس في حال من الأحول.. إذن سئم (س) من (س)؛ من هذا الجسد الذي ظل يلازمه واحدا وثلاثين عاما، هي عدد سنوات عمره في هذه (الحياة السودانية)؛ هو الآن ضجر من كل شيء يكونه أو كانه: الانتظار، الأمل، الشغف، الحب، والحلم، السنوات المنصرمة التي لن تعود، الذكريات، الظلام، المستقبل، هؤلاء الناس، الحياة، طعم الأكل والماء، الأصدقاء، البحث عن البحث عن البحث، عن البحث، الوصول!
قال الراوي: سئم المواطن (س) من عبور الشارع اليومي، ووجبة (السخينة)، وشرب الماء القراح، وتنويعات سجائر البرنجي والتنباك، أصابه الضجر من قهوة بائعة الشاي وظلال الأشجار وحرارة الشمس، من القميص المتأنق أو (المبدهل)، أكله الملل من البحث عن كل شيء، من الانتظار، الانتظار والانتظار، سئم عد (القروش) الورقية والمعدنية القليلة، ضجر من الوجوه داخل الحافلة وخارجها، من الأمكنة والخيول، من هذه الحياة.. ملل ملل، ثم اكتئاب.
قال الراوي: ما حكاية (س)، ومالنا بملله أو ضجره، أو حالة السأم التي انتابته وتركته وحيدا كـ(جرذ) منبوذ؟ وإذا انتقل بالفعل من الحالة ضجر إلى الحالة اكتئاب هل يغير ذلك في الأمر شيئا؟ لا. ستمضي الحياة؛ وسيأتي (ص) ليحتسي قهوة ست الشاي ويتجرع الماء القراح، ويجلس جوارك في المواصلات، وربما يخرج فجأة جزلانه ويرجه لمراجعة (قريشات) قليلات، وقد يدخن سيجارة برنجي ويتعطر مرة ويمضي صوب اللاشيء مرات أُخر، وربما سألك فجأة أين المواطن (س) هل مرّ من هنا؟
ختم الراوي؛ قال: نكرر السؤال: أين المواطن (س).؟
استدرك الراوي؛ قال: هل مرّ من هنا؟