حدث تاريخي ولحظات نادرة تشهدها دارفور اليوم، في الاحتفال بنهاية أمد وفترة السلطة الإقليمية لدارفور، التي ولدت من رحم اتفاقية الدوحة التي وقعت في 14 يوليو 2011م، وجرى بعدها ما جرى .. وبحضور السيد رئيس الجمهورية وضيوفه الكرام صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني أمير دولة قطر الشقيقة، وفخامة الرئيس التشادي إدريس دبي أتنو، رئيس الاتحاد الإفريقي، وفخامة الرئيس فوستان اركانج توادير رئيس جمهورية إفريقيا الوسطى الجارة العزيزة للسودان وعدد من ممثلي الدول الصديقة والجوار الإقليمي والمجال الدولي الفسيح، يتم اليوم إسدال الستار على مرحلة سياسية مهمة من تاريخ السودان، هي المرحلة التي شهدت تعافي دارفور واستردادها كامل صحتها وقوتها من بعد ضعف وسقام ومرض .. مرحلة نهاية السلطة الإقليمية التي قادت تنفيذ اتفاقية الدوحة منذ توقيعها باقتدار و حافظت على تماسك دارفور ووحدتها وعملت على تجنيبها أية انتكاسات تعود بها الى المربع الأول مربع الحرب والاقتتال .. أسئلة مشروعة ..! > لكن …هل دارفور اليوم آمنة مستقرة ..؟ وهل تحقق فيها السلام بالفعل..؟ وهل وضعت الحرب أوزارها ونجحت اتفاقية الدوحة ووثيقتها و تمكنت من إنجاز مهمتها والوصول لغاياتها وأهدافها ..؟ > وهل الاحتفال اليوم يمثل علامة واضحة تؤكد أن دارفور تسير في اتجاه الاستقرار وأنها ودعت سنوات الحرب والموت والصراع ..؟؟ > هل صحيح ما يُقال إن الواقع الجديد بدارفور طوى ما سبقه من وقائع وأحداث جسام، وأطل فجر آخر تلوح فيه بشائر التصالح والتسامح بين أهل دارفور وتعود أيام الصفاء القديم التي أنشد الجميع وصاح.. ألا ليت تعود.. ؟ > تطلبت الإجابات على هذه الأسئلة عملياً، رحلة طويلة وشاقة ومرهقة ومحفوفة بالخطر، قمنا بها عشرة من كبار الصحافيين ورؤساء التحرير الى ثلاث من ولايات دارفور (غرب ووسط وجنوب) ، والى منطقة جبل مرة التي منها انطلق التمرد وفيها الآن يقبر وينتهي للأبد..! > في هذه الرحلة وتفاصيلها تكمن الحقائق الساطعة كبروق الخريف هذه الأيام في ولايات دارفور، ولم تكن هذه الحقائق مخفية ولا مندسة وسط ركام التفاصيل الكثيرة أو وراء الحجب، لكنها موجودة وشاخصة يحسها ويعرفها مواطن دارفور يستجلي أمرها صباح مساء .. > وتطلبت الإجابة عن كل هذه الأسئلة، سفر كقطعة من جهنم، الى قمم جبل مرة وسهول غرب دارفور، وسهوب جنوب دارفور الخضراء ووديانها وخيرانها، بحثاً عن حقيقة بائنة ومعالم ظاهرة، تتعالى كما شاهق الجبال، لا شيء يسترها ويخفيها.. > تعود دارفور اليوم.. آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً ..!كل شيء تحول وتبدل وعادت كما كانت، وأصبحت فترة التمرد والحرب والصراع، مجرد قصص تروى وحكايات تسرد وبعض مرويات تقال، لم يتبقَ منها الا حسرات وأحزان سكنت الأفئدة والقلوب ثم بدأت تتلاشى تبعثرها بعيداً أصابع النسيان في طويتها الختامية . لماذا آمنة ومطمئنة ومستقرة ..؟ > الطريق نحو استقرار دارفور كان صعبا ًوطويلاً .. بدأ من أبوجا التي وقعت فيها اتفاقية في مايو 2006م لكنها لم تعمر طويلا ً، غير أنها حققت بعض ما كان يرتجى، ولم تكن هناك في أبوجا سوى حركة واحدة، تشظت إلى عدة حركات بعد ذلك وكانت بقية الحركات تواصل حربها وخروجها عن القانون .. > طرح منبر الدوحة في دولة قطر الشقيقة، وحقق هذا المنبر التفاوضي ما عجزت عنه المنابر السابقة في طرابلس بليبيا وأبوجا وأديس أبابا، واستطاعت الوساطة القطرية بعد مفاوضات مضنية وعسيرة من الوصول إلى وثيقة الدوحة التي أضحت بحق، هي جسر العبور ونقطة المرور إلى دارفور الآمنة الآن وهي تنعم بسلام حقيقي واستقرار ملموس يحسه المواطن على الأرض . > ولولا الدور الذي لعبته دولة قطر وصبرها العظيم على إنجاح التفاوض وتحملها عثرات وتقاطعات العلاقات الرأسية والأفقية للحركات مع محيط السودان الإقليمي والتعقيدات الدولية، لما تم السلام ولما تحققت فيه الإنجازات الضخمة التي تمت، ولولا حرص دولة قطر بقيادة الشيخ تميم بن حمد آل ثاني والامير الوالد الشيخ حمد بن خليفة ال ثاني على دفع عملية السلام في دارفور، وتقديم الدعم المالي للمشروعات الضخمة التي نفذت في القرى النموذجية وقرى العودة الطوعية وتوفير الخدمات للمواطنين المتأثرين بالحرب والصراع، لما استطاعت دارفور أن تجنح كلها إلى السلم وتحتضن بعضها البعض وتحقق معجزة السلام الذي رآه البعض مستحيلاً .. فالدوحة جعلت المستحيل ممكناً .. > ولم تكن الدوحة وحدها في الطريق نحو السلام، لعبت دولة تشاد بقيادة الرئيس إدريس دبي دوراً مهماً ومقدرا ًمن أجل السلام والاستقرار في دارفور وقادت التفاهمات والتعاون السوداني التشادي الى العمل المشترك في ضبط الحدود وطرد الحركات المتمردة وتكوين القوات المشتركة وتكاملت رغبة البلدان في صياغة رؤية موحدة للأمن في المنطقة والإسهام الفعال في جلب السلام وتعزيز مناخ التهدئة والحوار والتفاوض وحث كل الأطراف على الجلوس إلى مائدة التفاوض وصولاً إلى السلام .. > كانت سنوات اتفاقيةالدوحة ووثيقتها، سنوات تحدٍ حقيقي لعبت فيه الإرادة السياسية الموحدة في السودان بين شركاء عملية السلام، الدور الأبرز في إنزال هذه الاتفاقية على الأرض، وقد تمت متابعتها من الحكومة الاتحادية والسلطة الإقليمية وحكومات الولايات الخمس بدقة متناهية، تم فيها العبور فوق عديد الأزمات والمشكلات، وتكاملت فيها الأدوار وتغلب الجميع على الصعاب التي كانت تعترض المسير وكادت أن تعصف بها.. > تحقق الكثير في مضمار التنمية، وكتاب السلطة الإقليكية مليء بالإنجازات التي تم تحقيقها حسب توقيتاتها في الجداول التنفيذية للاتفاقية وأقيمت الكثير من المرافق الخدمية من مستشفيات ومراكز صحية ومدارس ومحطات مياه ومخافر للشرطة ومجمعات سكنية وحفائر للمياه، وقرى للعودة الطوعية وطرق وغيرها شملت كل مناطق دارفور، واستطاعت السلطة الإقليمية من وضع الأسس السليمة لعودة دارفور الى عمق التفاعل السياسي والاجتماعي بقيام مؤسسات السلطة الإقليمية ومجلسها التشريعي وتحقيق الحوارات الداخلية التي تندرج تحت مظلة الحوار الدارفوري الدارفوري، وبذلت جهوداً كبيرة في المصالحات القبلية ومناقشة كل القضايا التي كان يقتضيها الحوار الداخلي حول الأراضي واستخداماتها والحواكير وحدودها وتأثيراتها على التعايش السلمي، ولم تنسَ السلطة الإقليمية أهم مهامها في تنفيذ الترتيبات الأمنية التي وضعت الأمور في نصابها بالنسبة لقوات الحركات التي أدمجت في القوات النظامية وعومل بعضها وفق الضوابط واللوائح التي تحددها مفوضية نزع السلاح والتسريح والدمج . > استطاعت الاتفاقية أن تعبر بدارفور الى ضفاف آمنة هي التي سيراها الشيخ تميم بن حمد آل ثاني والرئيس إدريس دبي ورئيس جمهورية إفريقيا الوسطى، ولعل أبرز ما تم في هذه الفترة هو قيام الاستفتاء الإداري في دارفور، وقد حسم صناديق الاقتراع الجدل حول بقاء دارفور على ما هي عليه خمس ولايات أم تعود الى إقليم واحد، واختار المواطنون في دارفور نظام الولايات باعتباره النظام الأمثل للحكم ويحقق تطلعات ورغبات الجميع .. ثم ماذا بعد ..؟ اليوم في نهاية أمد السلطة، وبحضور هؤلاء القادة .. تتبدى هذه الحقائق التي لا يتجادل فيها اثنان ولا تنتطح عليها عنزان .. > كل ولايات دارفور خالية من التمرد، وإن وجدت فجيوب صغيرة جداً وأعداد محدودة تُعد على أصابع اليدين وفي مناطق بعيدة وقصية غير ذات تأثير كبير.. ولا تستطيع أن تؤثر في مسيرة الاستقرار والسلام.. > سئم أهل دارفور الحروبات والنزاعات المسلحة وأقبل كل مواطني الولايات الخمس على نداءات التنمية وتغيير الحياة نحو الأفضل، ووجدوا أن ما فقدوه في فترات التنازع والتمرد، يجب تعويضه بسرعة حتى تلحق ولاياتهم بركب بقية ولايات السودان، بتحقيق معدلات متسارعة في مجال الخدمات والتنمية .. > لم يعد للتمرد صوت، ولا لدعايته السياسية مستمع، لقد انكشف زيْف التمرد وخداعه، فهاهي معسكرات النزوح التي كانت تمثل وجه الأزمة الإنساني تكتشف ذلك فنراها اليوم أقرب الى روح التعقل والبناء والتطلع الى العيش الكريم، وعندما نزح النازحون من قراهم كانوا هاربين من حجيم التمرد، ولم يهربوا الى أماكن تواجد المتمردين، إنما جاءوا للحكومة في المدن الكبرى طلباً للحماية والعون والدعم، وهذا دليل قاطع على فشل التمرد في تأليب الناس وتحريضهم ضد الدولة . > منذ يوم الجمعة الماضية لحظة انزلقت بيسر وسهولة الطائرة التي تقلنا على مدرج مطار الشهيد صبيرة يوم الجمعة الماضية في ضحى تلبدت سماؤه بسحاب أسود لم يمطر، والشمس هنالك مسجونة بين رهو السحب المتثاقلة، وولاية غرب دارفور وهي أكثر الولايات الخمس استقراراً تحصد ما زرعت من برامج وسياسات وتدابير تمت من سنوات جعلتها الأكثر هدوءاً والأسرع توديعاً لصوت الرصاص ودخان الحروب ورائحة البارود، حتى مكوثنا في ولاية وسط دارفور وزيارتنا الى المناطق التي طُرد منها التمرد في محليات وسط وشمال وغرب جبل مرة، وصعودنا قمة الجبل في مناطق قولو وسرونق، ثم عبورنا الى نيالا بجنوب دارفور عبر طريق (نيالا كاس زالنجي ) ليلاً وسط ظلام دامس وحتى نهار أمس، جمعنا الكثير من الإفادات والتحقيقات الصحافية والحوارات وجلوسنا الى عشرات المواطنين، بل المئات وزرنا المناطق التي كان يسيطر عليها التمرد، اكتشفنا أن دارفور خلعت أثواب الحداد، وغطت أكوام الرماد والحريق، وخرجت زاهية خضراء مطمئنة تشهد أمام الجميع أنها في تعافٍ وأمان وسلام .. وتوجد في غضون الأيام القادمة قصص كثيرة ومعلومات مثيرة سنحكي عنها في هذه الرحلة ونحن نبحث عن السلام في دارفور فوجدناه متدثراً برداء وثيقة الدوحة وبدعوات الصالحين في تشاد وتمنيات الإخوة في إفريقيا الوسطى وأصدقاءنا وأشقاءنا في الوطن العربي الكبير وقارتنا السمراء..
الصادق الرزيقي