باتت السودان الملاذ الأمثل للسوريين الذي يستقبلهم دون تأشيرة دخول أو “فيزا”، ويعاملهم معاملة المواطن السوداني، إذ تعفيهم الحكومة السودانية من إجراءات الإقامة ورسومها، وتسمح لهم بالعمل، وتمنحهم سائر الخدمات التي توفرّها لمواطنيها، دون أن تفرض عليهم الوجود في تجمّعات خاصّة كمخيمّات للاجئين أو ما شابهها.
هكذا أصبحت أربع رحلاتٍ جويّة ممتلئة بالركّاب السوريين تتوجّه على مدار الأسبوع، مباشرةَ من مطار دمشق الدولي، إلى الخرطوم، لتعود شبه فارغة، ومعظم المسافرين شبابٌ يبحثون عن وجهةٍ آمنة، وآفاق حياةٍ جديدة، بعيداً عن الحرب في بلادهم التي أطاحت جبهاتها المشتعلة بأحلامهم.
وبمجرد الوصول إلى العاصمة المثلثة، يُسمَعُ خليط اللهجات السوريّة في كل مكان، ويمكن ملاحظة مطاعمهم التي تنتشر بغالبية شوارع “الخرطوم”، “أمدرامان”، و”خرطوم بحري” حيث يوجدون بكثافة هناك، كما أنّ المأكولات والحلويات الشاميّة والحلبية، باتت رائجةً بين السودانيين الذين استقبلوا السوريين بكل ترحاب، وتقبّلوا ثقافتهم في الطعام.
إحصاءاتٌ غير رسميّة تقدّر أعداد السوريين المتواجدين في السودان خلال المرحلة الحالية، بما يتجاوز المائتي ألف، إذ في مطلع التسعينيات بدأ سوريّون بالتوافد إلى الخرطوم، ومعظمهم ممّن ينتمون لتيّارات الإسلام السياسي، وهم بحكم المبعدين عن سوريا، ووجدوا ترحيباً من الحكومة السودانية، وشكّلوا طبقة تجار ومستثمرين يحظون بعلاقاتٍ نافذة، ومكانة مرموقة هنا، وقدّر عددهم بما يقارب 7 آلاف قبل اندلاع “الأزمة السوريّة”، وساهمت علاقاتهم، عبر “لجنة دعم العائلات السوريّة” التي شكّلوها، بتسهيل أوضاع أبناء بلدهم الهاربين من الحرب منذ عام 2012، وارتفع عددهم في الأشهر الأخيرة، بعد تقييد تركيا دخولهم إلى أراضيها.
التسهيلات الحكومية الملموسة بتوجيهاتٍ رسمية، وغير رسمية، وصلت إلى حد فتح باب منح الجنسية السودانية لطالبيها من السوريين، وحصل فعلياً قرابة أربعة آلاف سوري على جنسية البلد المضيف، وفقاً لتقديرات مصادر خاصّة لموقع CNN بالعربية، لكن تلك المصادر أشارت إلى أن الفوز بالجنسية يتم في معظم الأحوال عن طريق أشخاص نافذين، ومقابل مبلغ مالي حدّه الأدنى خمسة آلاف دولار أمريكي، ما ساهم بتغذية سوق غير رسمي، ينشط فيه سماسرة كثر، يجدون ضالتهم بالإقبال المتنامي للسوريين، ممّن يجدون في جواز السفر السوداني ضالتهم للعبور إلى محطّاتٍ عربية أخرى، لا سيّما دول الخليج.
وخلافاً لواقع الحال في بعض دول الجوار السوري العربيّة، والتي يعامل فيها السوريوّن بصفتهم لاجئين وتُفرض عليهم قيود كثيرة منها حرمان حق العمل، أو كضيوف “ثقيلي الظل” لدرجة العنصرية، والشكوى من مشاركتهم موارد بلادهم القليلة؛ يقابل الشعب السوداني أي سوري بصرف النظر عن موقفه السياسي بوّدٍ كبير.
هذا ما يمكن ملاحظته بوضوح في شوارع العاصمة السودانية، وأكدّه رجل الأعمال السوادني أحمد طه لـCNN بالعربية، قائلا إن وجودهم وفرّ “عمالة ذات إنتاجية عالية نشطّت الأسواق، وقدمت منتجاً جيّداً بتكلفةٍ أقل، والشعب السوري طيّبٌ بطبعه، ولم يُنسب إليه أيّ صلات إجرامية، وبقاؤهم بيننا لا يضايقنا بتاتاً.”
أخبرنا طه أيضاً عن حالات زواج انتشرت بشكلٍ ملموس بين السودانيين والسوريين خلال الفترة الأخيرة، ورأى أنّ ذلك “غيرّ مفهوم العلاقة الزوجية لدى الشباب السوداني نحو الأفضل، فنحن لدينا إشكالية هويّة (عربية- أفريقية) تتصدر الكثير من النقاشات في المجتمع، وهذا يجعلنا منفتحين على الثقافات الأخرى وأكثر قبولا للتغيير، وعلاقات المصاهرة قد تكون مدخلاً لذلك، وتوثّق الصلات بيننا كشعبين.”
بالمقابل ورغم شعورهم بـ”العرفان” للشعب والحكومة السودانية؛ تبدو رغبة السوريين بالحديث عن “مزايا” وجودهم في السودان نادرة “من باب درء الحسد”، إذ يرى معظم مَنْ التقينا بهم أن تسليط الإعلام الضوء على ذلك كثيراً قد يدفع الحكومة لفرض قيود على وجودهم في السودان، فهاجس فرض “الفيزا” بأي لحظة يثير مخاوفهم، بعدما عايشوا تجربتين تركتا أثراً مريراً في أنفس كثيرٍ منهم بمصر وتركيّا، لكنّ العديد من المسؤولين السودانيين أكدّوا بتصريحاتٍ تناقلتها وسائل إعلامٍ محليّة؛ أنّ ذلك لن يحدث “ما دام النيل يجري.”
القلق بشأن أيّ تغيراتٍ طارئة في سياسات الحكومة السودانية تجاه السوريين، ليس وحده ما يعكّر صفو الاطمئنان حول وجودهم هنا، فثمّة مَنْ واجهوا صعوباتٍ كبيرة بـ”التأقلم مع مناخ السودان القاسي”، كما يقاسم السوريون السودانيين معاناتهم من ضيق سوق العمل وتدني الأجور وتدهور سعر الجنيه أمام الدولار، ما أدّى لارتفاع الأسعار على نحوٍ غير مسبوق خلال الأشهر الستة الأخيرة، فضلاً عن غلاء أجور الشقق السكنيّة بشكلٍ كبير بعد زيادة الطلب عليها من السوريين.. إلا أنّ “الأمان والتعايش مع هذه الصعوبات أفضل من الجلوس في خيمة عاطلاً عن العمل والحياة،” هذا ما قاله لنا الشاب السوري “كنان” القادم حديثاً للسودان، محطّة هروبه الثالثة من الحرب.
CNN