عرف مرض الجمرة الخبيثة بأنه سلاح بيولوجي، لا سيما بعد “هجمات الجمرة الخبيثة” الشهيرة عام 2001 في الولايات المتحدة. لكن المدهش أن لهذا المرض تاريخ طويل.
وتوثق كتابات صينية انتشار مرض شبيه بالجمرة الخبيثة قبل 5000 عام. ووصف الشاعر الروماني فيرجل انتشار ما يشبه الجمرة الخبيثة في أوروبا خلال القرن الأول قبل الميلاد بقوله إنه “اجتاح أعصاب الحيوانات، ويبس لحمها قبل أن يفتت عظامها”.
ويعتقد بعض المؤرخين أن المرض كان موجوداً في مصر الفرعونية، وربما كان وراء الطاعون الخامس من “الطواعين العشرة” المعروفة فيها. وكما ورد في الكتاب المقدس: “ها هي يد الرب ترعى الماشية التي في الحقل، وترعى الخيول، وترعي الإبل والثيرانوالأغنام، وسيكون هناك طاعون خطيرا”.
لكن من الغريب حقاً أن كثيراً جداً من الأماكن في العالم شهدت مشاكل الجمرة الخبيثة في العصور القديمة. تؤدي الجمرة الخبيثة إلى الوفاة في غضون أيام. وتظهر أعراض المرض على الحيوانات المصابة بهذا الداء قبل أن يمكنها الانتقال بعيداً عن مصدر الإصابة، وهذا يحدث من انتشار الجمرة الخبيثة في أماكن ومساحات جغرافية أوسع من نطاقها الأصلي الذي تظهر فيه.
وعلى نحو ما، فإن هذا المرض الذي لا يمكنه السفر عبر العالم أصبح متنقلاً منذ آلاف السنين، وهناك أسباب تدفع للاعتقاد بأن للبشر دورا في هذا.
وتعتبر الجمرة الخبيثة عدوى قاتلة تتسبب بها عصيات بكتيريا الجمرة الخبيثة. وتشكل الميكروبات جراثيم يمكنها أن تعيش في التربة لسنوات عديدة، لكن ليس معروفاً عدد هذه السنين بالضبط. ويقول تاليما بيرسون من جامعة شمال أريزونا في فلاجستاف: “الرقم الذي أسمعه دائماً هو عشر سنوات. لكن لا أعتقد أنه تم اختبار ذلك بدقة”.
ويمكن أن يصاب الحيوان أو الإنسان إذا تنفس تلك الجراثيم، أو أكل طعاماً ملوثاً بها، أو حتى علقت به الجراثيم عبر جرح مفتوح في الجسد.
يعتقد بعض المؤرخين أن المرض كان موجوداً في مصر الفرعونية، وربما كان السبب وراء ما يعرف بالطاعون الخامس فيها
وبدون علاج سريع، يمكن أن يأتي الموت سريعاً. وتتشابه بكتيريا الجمرة الخبيثة على مستوى الجينات، وهو الأمر الذي أحبط في البداية جهود الباحثين لدراسة تاريخ نشوئها وتطورها. لكن هذا الأمر تغير منذ 20 عاماً عندما طور علماء الجينات تكنولوجيا حديثة مكنتهم من التعرف على الفروق الجينية الطفيفة بين السلالات.
ففي دراسة عام 2004، أظهر بيرسون وزملاؤه أن بكتيريا الجمرة الخبيثة تنقسم إلى ثلاث مجموعات أطلق عليها “أ”، و “ب” و”ج”. وجميعها لها أصل مشترك واحد، لكن ليس من الواضح أين ومتى عاشت تلك البكتيريا.
وعلى الأرجح أنها بدأت في أفريقيا، كما يقول مارتن هيو جونز من جامعة لويزيانا في باتون روج. في أجزاء من جنوب أفريقيا، كان التنوع الجيني للمجموعة “ب” من الجمرة الخبيثة في عينات من التربة نسبته عالية، وهذا في الغالب مؤشر قوي على المكان الذي ظهرت فيه هذه البكتيريا للمرة الأولى.
لكن بيرسون يعتقد أن علماء الجينات يحتاجون لتحليل المزيد من عينات التربة للتأكد من هذه النتيجة، ويقول: “فيما يتعلق بالتنوع، يمكنني القول إن أفريقيا أو أوروبا هي الموطن الأصلي لبكتيريا الجمرة الخبيثة”.
والشيء الذي لا شك فيه هو أن بكتيريا الجمرة الخبيثة من المجموعة “ب” انتشرت في أماكن كثيرة غير موطنها الأصلي. وبشكل خاص، توجد سلالة المجموعة “أ” الآن في جميع القارات الرئيسية، وهي مسؤولة عن 85 في المئة من حالات الإصابة بالجمرة الخبيثة حول العالم في الآونة الأخيرة.
ومن المستبعد أنها انتشرت حتى الآن من تلقاء نفسها. وقد شارك بيرسون ذات مرة في دراسة عن الجمرة الخبيثة في جنوب أفريقيا. ومن ناحية تاريخية، تضم المنطقة الكثير من الحيوانات آكلات العشب الكبيرة المعرضة بشكل خاص للعدوى. هذه الحيوانات تهاجر عبر مناطق جنوب أفريقيا، ولهذا فمن الناحية النظرية يمكن لسلالات الجمرة الخبيثة أن تنتقل معها. لكن ذلك لا يحدث.
ويقول بيرسون: “عندما درسنا بكتيريا الجمرة الخبيثة وجدنا أن المجموعات المختلفة منها تميل إلى البقاء محصورة في أماكنها ولا تنتقل إلى أماكن أخرى”.
وقد دعا ذلك إلى التفكير في الأمر، كما يقول. ولكن بمجرد أن أخذ الباحثون بعين الاعتبار السرعة التي تقتل بها الجمرة الخبيثة الجسد الحاضن لها، لم يعد ذلك أمراً خارجاً عن المألوف. وغالباً ما تعتمد مسببات الأمراض على الجسد الحاضن لها لنشر العدوى، لكن المجموعة “ب” من ميكروبات الجمرة الخبيثة تقتل الجسد الحاضن لها قبل أن يتمكن صاحبه من الانتقال بعيداً.
بينما كان الإنسان القديم يعبر من أوراسيا لأماكن أخرى، حمل معه عن غير قصد جراثيم الجمرة الخبيثة في ملابسه
وتعد الجمرة الخبيثة مشكلة تنحصر جغرافياً في موطنها إلى حد بعيد. أو على الأقل هذا هو الحال في جنوب أفريقيا. بيد أنه في أوراسيا تنتشر بعض السلالات في مناطق أوسع. فقد تمكنت هذه السلالات من الانتقال لمسافات طويلة بطريقة ما.
ويتساءل بيرسون: “لماذا يوجد هذا الاختلاف في أوراسيا؟ لا نعرف الجواب، ولكن يمكننا التخمين”. ويعتقد بيرسون أن السلوك البشري هو الأساس في وجود هذا الفرق.
فقد كان الإنسان في عصر ما قبل التاريخ يسعى عبر وسائل مختلفة لاستغلال البيئة التي يعيش فيها. وعندما كان يصادف جيفاً لحيوانات ميتة، ربما أخذ جلودها واستعمله كملابس له. فإذا كان هذا الحيوان قد مات بسبب إصابته بالجمرة الخبيثة، فإن جلده كان لا يزال يحتوي على الجراثيم التي تسببت في هذا المرض.
وبينما كان الإنسان القديم يعبر من أوراسيا لأماكن أخرى، حمل معه عن غير قصد جراثيم الجمرة الخبيثة في ملابسه، ناشراً إياها حيثما حل، كما يعتقد بيرسون.
وكان الإنسان القديم نشطاً بنفس القدر في جنوب أفريقيا، لكن المناخ هنا أرحم بكثير منه في أوراسيا، كما يقول بيرسون.
ويضيف: “على الأرجح، لم يحتاج الإنسان هنا إلى حمل جلد الحيوان معه للحصول على الدفء في الليل”. ونتيجة لذلك، حافظت المجموعة “ب” من جراثيم الجمرة الخبيثة على توزيعها الموروث المنحصر محلياً في جنوب أفريقيا.
ولو ساعد البشر في عصور ما قبل التاريخ على انتشار الجمرة الخبيثة من المجموعة “ب” خارج أفريقيا، لساعد ذلك ربما على تفسير الانتشار غير المعتاد للمجموعة “ب” من الجمرة الخبيثة في أمريكا الشمالية.
وكانت تقديرات معظم الباحثين حتى قبل عدة سنوات تقول إن الجمرة الخبيثة وصلت إلى الأمريكتين قبل مئات من السنوات مع المستوطنين الأوروبيين الأوائل. لكن عندما دقق بيرسون وزملاؤه في هذه المعلومات لدراسة أعدوها عام 2009، أدركوا أن ذلك التاريخ ليس دقيقاً.
فقد أظهرت المعلومات أن أقدم الأنواع من بكتيريا الجمرة الخبيثة من المجموعة “ب” كانت موجودة فقط في شمال غربي القارة الأمريكية. أما الأنواع التي تلت ذلك فقد وجدت في الجنوب حتى وصل بعضها إلى تكساس. ويعني هذا أن الجمرة الخبيثة وصلت إلى الأمريكتين عبر ألاسكا، و كندا، ومن ثم انتشرت جنوباً وشرقاً.
ويختلف ذلك الشكل من الانتشار تماماً عن حركة المستوطنين الأوروبيين الذين وصلوا إلى الشواطيء الشرقية. لكنه يتطابق مع الطريق الذي سلكه الأمريكيون الأوائل عندما استوطنوا القارة قبل 13 ألف عام. وقد وصل هؤلاء الأمريكيون الأوائل بالتأكيد إلى العالم الجديد من شمال شرقي آسيا مستفيدين من الجسر الأرضي الرابط بين آسيا وأمريكا الشمالية خلال العصر الجليدي المتأخر.
ويعني ذلك أنه بحلول الوقت الذي بدأ فيه البشر عصر الزراعة قبل حوالي 10 آلاف عام، كان أسلافهم الذين مارسوا الصيد قد حملوا الجمرة الخبيثة عبر أوراسيا وصولاً إلى الأمريكتين.
لكن ربما تكون الثورة الزراعية قد فاقمت من مشكلة الجمرة الخبيثة. ففي عام 2007، أصدر باحثون، من بينهم بيرسون، أكبر تحليل شامل حتى الآن عن تاريخ الجمرة الخبيثة من المجموعة “ب”.
وتقول هذه الدراسة إن المجموعة “أ” من الجمرة الخبيثة انتقلت بشكل مفاجيء قبل ما بين 6500 سنة و3300 سنة. ويتزامن ذلك مع العصر البرونزي وبداية تجارة البضائع عبر المسافات الطويلة، بما فيها المنتجات الزراعية عبر أوراسيا.
وتواكبت هذه التجارة ذات المسافات الطويلة مع حقيقة أن زراعة المحاصيل قربت من احتكاك الناس واتصالهم بالحيوانات آكلة العشب، مما خلق البيئة الملائمة تماماً للمجموعة “أ” من الجمرة الخبيثة للانتشار والتعدد.
وانسجاماً مع هذه الفكرة، كشفت دراسة في الصين حول الجمرة الخبيثة من المجموعة “ب” أن تلك الميكروبات توجد في أقصى تنوع لها في منطقة غرب الصين، قرب مدينة كاشي. وكانت تلك المدينة ملتقى على ما يُعرف بـ”طريق الحرير” الشهير، والذي ربما استخدم كأول طريق تجاري في العصر البرونزي.
ومع ذلك لا يوجد دليل أكيد على أن البشر مسؤولون عن انتشار المجموعة “ب” من الجمرة الخبيثة في العالم، أو سلالات المجموعة “أ”.
وتقول دراسة نشرت عام 2000 أن سلالات المجموعة “أ” من الجمرة الخبيثة تكيفت بشكل أفضل مع بيئات متنوعة أكثر من سلالات المجموعتين “ب” و “ج”. فالمجموعة “أ” من الجمرة الخبيثة ربما يكون لها قدرة خاصة عندما يتعلق الأمر بالحياة في التربة.
ويقول هيو جونز: “ربما لديها معدل تكاثر يسمح لها بالتكيف السريع مع أي نوع من التربة تجد نفسها فيه”.
لكن بيرسون يعتقد أن هذه الفروقات الحيوية وحدها لا يمكن حقاً أن تفسر لماذا تعتبر المجموعة “أ” أكثر قدرة على البقاء والانتشار من سلالات المجموعتين “ب” و”ج”.
والفرق، كما يقول بيرسون”، يمكن أن يتلخص ببساطة في أن سلالات المجموعة “أ” قد انتشرت بفعل النشاط البشري إلى مدى أوسع بكثير. ويضيف: “كانت بكتيريا هذه المجموعة (أ) في المكان الصحيح في الوقت الصحيح”.
ومهما يكن الأمر، يتزايد ترجيح أن الجمرة الخبيثة شائعة ليس لأنها تستطيع الانتشار من تلقاء نفسها، ولكن لأن أسلافنا القدماء حملوها دون أن يشعروا إلى أنحاء مختلفة من العالم.
BBC