أوجد عزلة بين أفراد البيت الواحد المجتمع الافتراضي… الوسائط الحديثة تقضي على الترابط الأسري

باحثة اجتماعية: أستبعد أن تكون تطبيقات الوسائط الحديثة مخططاً غربياً للسيطرة علينا
أكاديمي: التقنية الحديثة لن تسيطر على مجتمعنا السوداني وستبقى العادات رغم تحديات الغزو الثقافي
طالبة: مواكبة التكنلوجيا مطلوبة وشخصياً لا أشاهد القنوات المحلية واهتمامي محصور في القنوات الخارجية

العم الزين رجل سبعيني قابلته ذات يوم في المحطة بجبرة منتظرًا البص ليقله إلى مكان عمله، وأثناء انتظارنا المركبة أو الهايس سرد لي عن الطقوس والأجواء التي كان يعيشها جيله في المحطة سابقاً، في إشارة الى تغير الزمن، مضيفاً أن الأجواء في المركبات كانت لطيفة جداً وتمثل المحطة ملتقى لكل أهالي الحي، يتعارف الناس على بعضهم البعض.

وحكى الزين قصة فحواها أن المركبات كانت ملتقى وفرصة لخلق علاقات جديدة، مضيفاً أن هناك أسراً كانت نواتها المركبات، وبعد ذلك توطدت العلاقات وامتدت إلى أن وصلت إلى الزواج من خلال هذه المواصلات.

اختلافات
يؤكد كثيرون أن الوضع اختلف تماماً خاصة مع التطور والحداثة، فالأجواء أصبحت مثل الطقوس الغربية التي وفدت عن طريق الوسائل الحديثة بدءاً من الديجتال ومروراً بالفيسبوك وانتهاء بالواتساب، حيث انتشرت ثقافات غربية مع انتشار التقنية الحديثة في كل المنازل بجانب انفتاح الفضائيات التي من خلالها تشاهد الأسر الأفلام الغربية والتي أثرت في سلوك الأجيال الجديدة مع اندثار بعض العادات والتقاليد التي كانت تميز مجتمعاتنا عن بقية البلدان، وبرز ذلك من خلال المناسبات الاجتماعية والأعراس من رقصات غربية (اسلولي) وزفات عربية، وأضاف عم الزين: إننا أصبحنا مجرد متلقين نستقبل الثقافات حيث أثرت فينا تلك الثقافات، موضحاً أنه ليس ضد التطور أو الحداثة بل مع التقدم، لكنها تجاوزت الخطوط الحمراء وبسببها فقدنا السيطرة على النشء، وأضاف: في يوم من الأيام ركبت البص ولاحظت أن كل الركاب من الجيل الحديث منهمكون مع الهواتف النقالة منهم من يدردش عبر الفيس أو الواتساب، وبعضهم يستمع إلى الأغاني عبر الهاتف أو متابعاً للإذاعة، وتحسر العم الزين على الزمن الذي كانت فيه المركبات تضج بالنشاط والحيوية والقفشات، وزاد الزين: كنا نتعرف على بعض ففي كل يوم نتعرف على شخص جديد.

افتقاد الملامح
فيما يشير الستيني أحمد إلى أنه بمثلما يوجد نجوم لكل أطياف المجتمع الفني والكروي، فللمركبات هناك نجوم وكنا نعرفهم جيدًا وأذكر سابقاً في الثمانينات كنت معجباً بشخصية لا أذكر اسمها دائمًا أقابلها في استاد الخرطوم تبيع الماء للمارة والركاب فهي شخصية جذابة وموهوبة جداً ودوماً الزبائن يطلبون منه تقليد الفنان أحمد المصطفى. لا أعلم إن كان هذا الرجل حياً أو ميتاً، وتابع: لدي سؤال “هل ستصبح هذه التقنيات الحديثة بعد مرور خمسة أعوام وأكثر عادية أم تصبح قديمة، وهل يا ترى ستعود الأيام القديمة أم ستظل ذكريات نسردها كل مرة لأجيالنا اللاحقة.

حديث عابر
(الصيحة) استطلعت عددا من الشباب حول هذا الحديث الذي جاء نتيجة لحوار عابر بيننا والعم الزين حول فكرة تباين أفكار وثقافات وعادات الأجيال، حيث يقول عجب الدور كباشي شاب عشريني إن لكل زمان مميزات قد تختلف عن ميزات الأجيال السابقة، وأضاف أن هناك فجوة كبيرة حدثت بين الأجيال، مضيفاً أن العادات والتقاليد السودانية ستظل هي الموحد الحقيقي لكل السودانيين, وجلهم يشترك فيها لدرجة أنك لا تستطع التفريق بين غني وفقير.

وقالت الطالبة بجامعة الخرطوم ريماز عوض الكريم إن الأمر طبيعي جداً خاصة وأن العصر الحالي لمواكبة الحداثة وأضافت: (أنا لا أتابع المحطات المحلية إطلاقاً) الأمر الذي سهل تأثير الثقافة الغربية في مجتمعنا.

اختلاف كامل
أما الموظفة أم هاني التي تعمل بإحدى شركات القطاع الخاص (التقتها الصيحة في موقف المواصلات) فقالت إن الجيل الحديث مختلف تمامًا من الأجيال السابقة من حيث الفهم والتفكير، ولذلك من الصعب جداً الحفاظ على العادات إلا بتكثيف الحملات الإعلامية، وقالت إن الدور جماعي ليس محصورا على فئة معينة، وأضافت أن شقيقها الأصغر من المدمنين للواتساب والفيس بوك لا يستطيع الحديث مع أي شخص عندما يكون حاملاً في يده الهاتف، أما المواطن الفاتح بدر الدين العجب اعتبر التغيير أمراً طبيعياً جداً، وقال إن والدته دائماً تتصفح جوالها وكثيراً جداً تقوم بتحضير الطعام في وقت متأخر جدًا عن زمن الوجبة، بسبب الانهماك مع الجوال، وأضاف أن هذا التركيز مع التقنية الحديثة أمر غير غريب، وزاد: عندما اشترينا (جهاز الديجتال) في خواتيم الألفية الثانية كانت الأسرة تحرص جداً على مشاهدة التلفاز لحداثة التقنية وقتها، والآن الوضع اختلف وأصبحنا لا نشاهد التلفاز إلا عندما يكون هناك حدث كبير، لكن ظاهرة الانهماك مع التطبيقات ومواقع التواصل الاجتماعي كــ(الواتساب) في المواصلات والشارع العام أمر ليس مزعجاً بالنسبة لي، وبعد مرور سنتين أو ثلاث ستعود الأمور الى طبيعتها لأنها ستصبح هذه التقنية قديمة.

تأثير
أما الأستاذ الجامعي أحمد الفكي محمد فقال إن التقنية أعانت الغربيين على التأثير فينا، منوهاً إلى أن هناك مهتمين بالثقافات القديمة حريصون على إحيائها في مناسباتنا، ويتميز السودان بثقافات وحضارات متعددة، عن بقية البلدان، ومع تعدد القبائل السودانية تتعدد الثقافات والعادات والتقاليد في إشارة إلى أن الروابط بين القبائل أزلية يحرص كل السودانيين عليها، ففي الجنوب ثقافة تختلف عن الشمال، وكذلك في الشرق ثقافة تختلف عن الغرب، لكن هناك عادات وتقاليد تشترك فيها كل القبائل. وإذا ضربنا مثلاً بـ(الحلو مر) المشروب السوداني الرمضاني، نجد أن كل القبائل تشترك فيه، فالغني والفقير يتناوله في شهر رمضان العظيم، وأيضاً هناك روابط وجدانية أخرى فالأغنيات السودانية ساهمت في كثير من القضايا ويكفي أنها وحّدت الوجدان السوداني، ووثّقت لأحداث سودانية عظيمة, حيث نجد شخصاً من الجنوب يستمع إلى فنان من الشمال، والشواهد على ذلك كثيرة وعند انفصال جنوب السودان عن الدولة الأم وعقب مرور سنوات لا زال الجنوبيون يستمعون إلى الأغاني السودانية.

وأضاف الفكي: إن هذه التقنية الحديثة لا يمكن أن تسيطر على مجتمعنا السوداني، وستظل العادات والتقاليد السودانية رغم التحديات التي وفدت إلينا من الدول الغربية عبر الوسائل التقنية الحديثة، تظل صامدة لا تهزها رياح التغيير، وستكون كالشجرة العريقة أصلها ثابت وفرعها في السماء، تستظل بها كل الأجيال الحديثة.

حفظ التراث
وطالب أحمد الفكي وزارة التربية والتعليم بأن تقرر مادة لأجيالنا الجديدة في المدارس تحافظ على هذا التراث السوداني وعلى التلاحم والتكاتف الذي نتباهى به مع بقية الأجناس العربية أو الغربية وليحفظه جيلنا عن ظهر قلب ويقاوم الثقافة الوافدة من الغربيين الذين لا نتفق معهم لا اجتماعياً ولا فكرياً ولا ثقافياً، حيث توجد بيننا فجوة كبيرة بل يسعون لتفتيت المجتمع السوداني المترابط من خلال وسائلهم التقنية. وأنا موقن جداً في حال وضع مادة جديدة تهتم بالتراث والثقافة السودانية لأجيالنا اللاحقة نستطيع أن نتوحد ونؤثر في بقية الدول الغربية.

تقصير
أما الأستاذة وداد عمر فقالت إن هناك تقصيراً كبيراً من جانبنا كأكاديميين في التواصل مع هولاء الشباب، وطالبت بأن يكون هناك دور كبير للأكاديميين وأيضاً الصحافة والأجهزة الإعلامية المختلفة لتوعية المجتمع وبالأخص الجيل الجديد لأن المسألة تكافلية، وأضافت أن ابنتي تدرس في إحدى الجامعات السودانية ودائماً أجدها منهمكة مع هاتفها النقال ولاحظت أن صورة الحائط للفيس والواتساب صورة لممثل تركي أو هندي أو جنسية مختلفة، وقالت إن الغربيين أصبحوا يتحكمون في جيلنا عن طريق الوسائط المختلفة بعدما أصبحت في متناول اليد، وهذا أمر مزعج جدًا بالنسبة لي، فالموضوع كبير وليس بهذه البساطة ويحتاج إلى مناقشة كبيرة جدًا عبر منتديات فكرية في المساحات الإعلامية المختلفة، وأردفت قائلة: أن هذه التقنية أثرت فينا بصورة كبيرة ولا أستبعد أن يكون هذا مخطط غربي يسعى من خلاله اليهود للسيطرة علينا ليشغلوننا عن أداء الشعائر والمحافظة على هويتنا ومسح القيم المتوارثة.

عزلة اجتماعية
تقول الخبيرة في العلاج النفسي د. منى عابدين عبد الرحمن، إن انتشار هذه الوسائل تسبب في ما يمكن أن نعتبره (انشقاقاً) اجتماعياً، وحدوث فجوة داخل الأسرة السودانية التقليدية، حيث اتسعت مساحة الفوارق بين الآباء والأبناء. ورأت الاختصاصية النفسية أن انتشار وسائط التواصل تؤدي إلى توقف لغة الحوار والتفاهم بين الآباء والأبناء مما قد يؤدي بشكل كبير الى انعزال الأبناء عن الجو الأسري الذي يسوده لغة التفاهم والمرح والدفء، وذلك لانشغال الكل بهواتفهم المحمولة وانجذابهم إلى عالم (الواتس اب) وغيره من التطبيقات، وتضيف: في عصرنا الحالي أضحى غالبية السودانيين يستمدون قيمهم المجتمعية من هذه التطبيقات التي قد تصل في حالات سلوكية إلى حد الإدمان، كما لها عظيم الأثر الاجتماعي على من هم حولنا ويتمثل ذلك في التقليل من العلاقات والنشاطات الاجتماعيه كما في السابق مثل المشاركة في ممارسة رياضات معينة أو الاشتراك في النوادي داخل الأحياء الصغيرة، ووضع خطط وبرامج لحماية المنطقة وحفظها وتطويرها وتمثل أيضاً في الحد من المشاركة في مناسبات الحي أو المنطقة أو مناسبات الأصدقاء والأهل حتى الذهاب إلى المسجد أصبح عبئا ثقيلاً عليهم وذلك لتفضيل الشاب أو الشابة الجلوس في عزلة مع برامجه وتطبيقاته الاجتماعية.

وتعكس آخر إحصائية للهيئة القومية للاتصالات في السودان، حقيقة تأثير الوسائط الحديثة على المجتمع السوداني، حيث بينت أن مستخدمي شبكات الانترت على الهاتف الجوال (الموبايل) أكثر من 9 ملايين أي نحو ثلث سكان السودان، 82% منهم يعيشون في الحضر و69.8% في الريف و76.3% من النساء و70.1% من الرجال. وبحسب الدراسة المسحية فإن نسبة الأسر التي يمتلك أحد أفرادها جوالاً في المدن تبلغ 95.4% وفي الريف 88.5%.

الخرطوم: محمد الشناوي
صحيفة الصيحة

Exit mobile version