نوع نادر من السياحة الذهنية نقلتني أواخر الأسبوع الماضي، من بهاء المشاهدة إلى فضاء تاريخ حي يتجسد في رجال المملكة خلال حقبة زمنية معينة. أولئك هم رجال العقيلات بحياتهم المحفوظة بين جنبات متحف العقيلات بمدينة بريدة، حاضرة منطقة القصيم.
فبالإضافة إلى مقتنياتهم الثمينة المحفوظة في هذا المتحف لم يترك مؤسس المتحف والقائم على أمره، الأستاذ عبداللطيف بن صالح الوهيبي، أثرا لهؤلاء الرجال إلا اقتفاه، ولا غرضا من أغراض رحلاتهم إلا اقتناه وحفظه. فالشرح والتفسير لما يحتويه المتحف بين جنباته ليس وليد التكهن، وإنما يستند على التعريف بقالب مشوق ينقل السامع إلى ذلك الزمن الذي كان يتنقل فيه العقيلات ومحطاتهم التجارية العديدة.
يعود التاريخ من جديد مجسدا في متحف العقيلات ليحكي جزءا من تراث المملكة العربية السعودية. ذلك التراث الذي يشكل لكل من سبر أغواره عودة إلى الماضي الجميل وما خلدته هذه المقتنيات التاريخية التي يحكي كل منها عن قصة في فصول الحياة.
من ضمن ما قيل في حقهم كلمة الملك عبدالله بن عبدالعزيز، رحمه الله: «إن العقيلات خير سفراء للوطن». وأثنى عليهم أيضا الأمير سلطان بن عبدالعزيز، رحمه الله، حيث قال «إنهم من أوائل من جلب التجارة للمملكة».
منذ مئات السنين وحتى عام 1368هـ، كان تجار نجد في هيئة سفراء للاقتصاد والثقافة والاجتماع، تجمعهم كلمة (عقيل) وهي مهنة تجارية، يتاجرون بالإبل بالدرجة الأولى، والخيل والتجارة العامة، يصدرون الإبل والخيل والأغنام والسمن إلى بلاد الكويت والعراق والشام والأردن وفلسطين وتركيا ومصر، ويستوردون الأسلحة والقهوة والشاي والسكر والأرز (التمن) والأواني والملابس وغيرها.
كان العقيلات يتجمعون في مناخهم الرئيس بالجردة، ويعتبر السوق الرئيس في مدينة بريدة، وهو أكبر تجمع للعقيلات في منطقة نجد بأكملها، يبيعون خلاله المواشي ومنتجاتها.
وتبدأ الرحلة بالاتجاه شمالا حتى الهلال الخصيب والعراق في فصل الشتاء، ويفضل على فصل الصيف نسبة لتحمل المواشي، ويتخيرون السوق الجيد للإبل والخيل والأغنام ومنتجاتها. ويتجه بعضهم شرقا إلى بلاد الهند والسند.
وغربا إلى إقليم كردفان بالسودان، وهنا يتم اختيار فصل الصيف عن طريق مصر بمحاذاة النيل إلى أن يصلوا إلى «أم بادر» التابعة لبادية قبيلة الكبابيش بشمال غرب السودان، ثم غربا إلى مدينة النهود وقبائل الحمر الذين يبيعونهم أجود أنواع الإبل، ثم يسلكون محاذاة النيل في طريق العودة أيضا. كما تمتد رحلاتهم جنوب غرب المملكة إلى مكة المكرمة مرورا بالمدينة.
ولدى العقيلات مركز آخر للتجمع هو بلدة الطرفية التي اكتسبت أهميتها التاريخية من أنها كانت تعتبر إحدى محطات الحجاج القادمين من الكويت والعراق والشام. فقد كان سوق البلدة ملتقى تجاريا مهما، بالنسبة لهؤلاء الحجاج الذين يتزودون بكافة احتياجاتهم الغذائية منه.
شدني ذلك التاريخ الجميل الذي اتكأ عليه العقيلات، وربما يعيد الناس للتفكير مرة أخرى في العمل على ازدهار هذا النوع من الاقتصاد المعتمد على الموارد كبديل للنفط، ويذهب في مسار خطة الأمير محمد بن سلمان لعام 2030م. وبالإمكان تحقيق ذلك بالتجارة على طراز حديث مع الاحتفاظ بالأساس العريق لهذه الرحلات التي تشبه رحلات الشتاء والصيف، والهدف الأسمى الذي يتحقق بين ثنايا هذا النشاط هو التواصل الإنساني، شرقا حتى بلاد الهند والسند، وشمالا إلى بلاد الشام حتى الحدود مع تركيا، وجنوبا حتى اليمن، وإلى مصر والسودان غربا حتى ديار الكبابيش في غرب السودان.
mona.a@makkahnp.com