كتبت مرارا فيما يشبه التباهي عن أنني كنت قد قرأت كل أدب الأطفال المتاح باللغة العربية، في المرحلة الابتدائية، (روايات كامل كيلاني وجورجي زيدان وغيرهما)، ثم روائع الأدب الروائي الإنجليزي قبل أن أكمل المرحلة المتوسطة، ولا بأس في التباهي بمثل هذه الأشياء في زمن صار الناس يتباهون فيه بأرقام هواتفهم وسياراتهم، أو بكونهم اقتنوا آخر «سي.دي» لكاظم الساهر أو العجرمية، واشتروا ساعات وأقلاما بآلاف الدولارات، ولي الحق أن أفخر بأنني قرأت مئات الكتب في عصر ما قبل «اختراع» الكهرباء، وفي زمن كان الخلق فيه ينامون في الثامنة مساء، أي في زمن كان فيه الناس يحاولون قهر الظلام بمصابيح تعمل بالجاز/الكاز الأبيض (الكيروسين)، بل وتستخدم العائلات البرجوازية مواقد تعمل بذلك الصنف من الوقود للطبخ، فتأتي رائحة الطعام مشبعة به.
وأدرك بين الحين والآخر وأنا أكتب خواطري أنني كالتاجر المفلس الذي يراجع دفاتره القديمة، ليتذكر زمان البحبوحة والنغنغة، فدفاتري القديمة فيها أشياء ترفع الرأس وتملأ كذا «كرّاس»، وبالمقابل فإنني طوال السنوات الماضية لم أفلح في قراءة أكثر من كتاب واحد في الشهر، بل أتى علي حين من الدهر لم اقرأ فيه أكثر من أربعة كتب في سنة كاملة، ولكن ليس لأنني عجرمي المزاج أو ميال للهو والصرمحة والصياعة.
بالعكس، تكمن المشكلة في أن اليوم الذي يتألف منه 24 ساعة لم يعد «يكفي»، وأرجو من ساكن البيت الأبيض الذي صار يحدد لنا ماذا نأكل ومتى نذهب إلى دورات المياه أن يصدر قرارًا يجعل اليوم 42 ساعة والأسبوع تسعة أيام، (ويصبح اسمه التسوع) تكون أربعة منها عطلا عامة.
شباب الزمن المعاصر لا يقرؤون لأن لديهم مختلف أدوات اللهو البريء والملوث، لديهم أشياء كثيرة ممتعة مثل ألعاب الفيديو والكمبيوتر والإنترنت، ولكن حتى الإنترنت الذي يحوي كنوزًا ضخمة من المعارف لا يمكن أن يقوم مقام الكتاب، بل إن العيب الأساسي في الإنترنت، حتى بالنسبة إلى من يستخدمونه لأغراض ثقافية، يكمن في أنه يعطيك تناتيف من هنا وهناك، وتبحث عن مادة معينة وتكتشف أن أصحاب الموقع استدرجوك إلى غير ما تريد.
قضيت الشطر الأعظم من فترة الصبا في أقصى شمال السودان النوبي، حيث لم تكن هناك ألعاب سوى النوع «الشعبي»، الذي لا تعصب فيه ولا تشنج، حتى كرة القدم لم تكن معروفة خارج المدارس، وكنا نحسب أن ريال مدريد عملة إسبانية صعبة مثل الدولار والإسترليني، ولم يكن هناك تلفزيون، ولو كان موجودا لكان من الذي يعمل بالفحم أو الحطب لانعدام الكهرباء، ويتسبب بالتالي في حرائق، وجهاز الراديو الوحيد الذي كان في البلدة كان في بيت ناظر المدرسة، ثم اشترى العمدة جهازًا آخر، وعاد قريب لنا كان يعمل في المدينة الكبيرة حاملاً معه راديو، فصرنا نباهي به أبناء الأحياء الأخرى.
وحتى الراديو لم يكن يعمل إلا في الأمسيات (أتحدث هنا عن الإذاعة السودانية التي بدأ إرسالها في منتصف أربعينيات القرن الماضي، مع التذكير بأنني أتحدث عن عمر الإذاعة الذي لا علاقة له بعمري)، وكان يوما الجمعة والأحد عطلة حتى بالنسبة إلى الإذاعة، حتى بعد الاستقلال عن الاستعمار البريطاني، ولن أنسى ما حييت ليلة إذاعة نتائج امتحانات الشهادة المتوسطة التي كانت تؤهل التلاميذ للالتحاق بالمدارس الثانوية.. ونطق الراديو اسمي ضمن الناجحين، وظللت طوال أسبوع كمن يمشي على السحاب: ذهول تام وإحساس عارم بـ«الأهمية»، ولم يكن إحساسًا متوهمًا، لأن جميع من حولي من أهلي النوبيين كانوا ينظرون إلي وبقية من نجح معي ونطق الراديو بأسمائهم بإعجاب: رفأتم رأسنا آليا.. (رفعتم رأسنا عاليا).. وطفقت أفكر: أي مهنة أختار؟ رئيس وزراء؟ عمدة؟ سائق شاحنة لوري؟ لا تنسوا أن اللوري كان الأداة الوحيدة التي تربطنا بالقرن العشرين.