صناعة السياسي وقانون جريشام
كثيرًا ما اطلعت ووقفت على هوس أصيل لدى بعض (دهاقنة) الأكاديميا السودانية بضرورة تحويل كل ما يشغل الناس إلى مادة دراسية، النظافة وحماية البيئة، والآثار السالبة لوسائل التواصل الاجتماعي والإنترنت والغذاء الصحي، والمخدرات والإسعافات الأولية ورفع القدرات والمهارات وخلافها، لكنني للأسف ورغم بروز بعض المؤسسات الدراسية التي تبذل مثل هذه الكورسات لمن يريدون، إلا أنه لم يتغير الكثير في سلوك الناس السالب تجاه تلك الأمور، وبرأيي أن السبب الرئيس في ذلك هو (سياسي) محض، فغياب الإرادة السياسية يعطل تنفيذ كل شيء، كما هو معلوم بالضرورة.
لذلك كان على الأكاديميين المهووسين بإحداث تغيير في سلوك المواطن وتطوير قدراته المهنية وترقية سلوكه، أن يستبقوا كل ذلك بكورسات لـ(تأهيل) السياسيين، الذين هم أس (البلاوي المتلتلة) التي حاقت بكل مناحي الحياة وبالسلوك الجمعي للمواطنين، على أن تتضمن تلك الكورسات منهجًا (نفسانيًا) يعنى بتكريس حالة من الاستقرار النفسي والشعور بقيمة الذات والرضا الداخلي وسط السياسيين، ما يجعلهم أكثر قدرة على التحكم في سلوكهم والشعور بالانتماء إلى الجماعة والحماسة للعمل ونضج الشخصية.
بطبيعة الحال، فإن الناظر إلى ما يجترحه السياسيون من أفعال وأقوال لن تُعييه ملاحظة أن جلهم بحاجة ماسة إلى كورسات مُكثفة في التأهيل المهني والسلوكي، ودون ذلك لن تمضي الأمور في هذه البلاد إلى ما يُرام ويُراد منها، وتجربة (60) عامًا من الفشل الذريع والتردي المخيف كافية جدًا للتفكير في طرق وأساليب جديدة تستهدف صناعة سياسيين أكفاء (عقلاء) ومهنيين ووطنيين أيضًا.
وفي هذا الصدد أقترح تدريس قانون جريشام ضمن منهج صناعة وتأهيل السياسيين المقترح، والقانون ذاك منسوب إلى توماس جريشام الذي شغل وظيفة مستشار لملكة إنكلترا إليزابيث الأولى في القرن السادس عشر، ويتلخص القانون الذي سُك حين كانت قيمة النقود تقاس بمعادنها (ذهبية، فضية، برونزية… إلخ)، في العبارة الذائعة: “النقود الرديئة تطرد النقود الجيدة”، حيث لاحظ الرجل أن الناس يحتفظون بالنقود الجيدة المصنوعة من المعادن النفيسة والنادرة ويميلون إلى تداول واستخدام الرديئة والقديمة، وينتهي الأمر بأن يظل النقد الرديء وحده حيز التداول.
ورغم أن هذا القانون، فقد راهنيته مذ عقود طوال، وأصبح، بالتالي جزءًا من تاريخ الاقتصاد، لكننا نرى أن صلاحيته لا تزال قائمة في ما يتعلق بالسياسة والسياسيين، من منسوبي هذه البلاد بصفة خاصة، فدومًا ما يظل الحكم والسلطة السياسية سواء على مستوى قيادات الأحزاب السياسية أو الحكومات قيد التداول بين السياسيين الرديئين فيما يُقصى وبشكل مستمر (النفيسون) منهم، ما ترتبت عليه الأوضاع الماثلة بين يدينا الآن، ما يتطلب إعادة تأهيل وتدريب إلى أن نستعيد النقود (السياسية) الجيِّدة إلى حيز التداول مرة أخرى، وحينها سيتغير كل شيء إلى الأحسن، ونقول لنظرية توماس جريشام وداعًا ولا لقاء، أو هكذا نظن.