محاصرة الأسعار وكبح الدولار
أسوأ ما في الأمر أن تعتقد الحكومة أن على رؤوس مواطنيها (قنابير)، لكنها (معذورة) في ذلك، إذ أن تجربتها المديدة في ما ظلت تجترحه (سنويًا) وتُطلق عليه رفع الدعم التدريجي عن السلع والخدمات متزامنًا مع استمرارها في إدارة الظهر عن المواطن وتركه دون حِماية، نهبًا لجشع (وجحم) جيوش السماسرة والمُرابين و(أكلة السُحت)، أظهرت لها ما يجعلها تظن أن سياساتها تحظى برضا وقبول وسط المواطنين وأنها كلما غلت يديها عنهم كانوا (مبسوطين) منها كل (البسط) وداعمين لها كل الدعم، وهكذا تظن. لذلك دأبت على تنفيذ كافة قراراتها القاضية برفع أسعار السلع والخدمات دون أن تفكر مثنى وثلاث ورباع في عقابيل ذلك عليها. والحال كذلك في ما يتعلق بسعر صرف (الشهيد) الجنيه السوداني أمام العملات الأخرى حتى وصل الأمر حدًا لا يُطاق.
ومن يوميات الخرطوم الصادرة البارحة نقرأ خبرًا عن “لجنة مشتركة من الحكومة والقطاع الخاص لمحاصرة ارتفاع الدولار”، ونتهامس ونجهر ونبتسم ونقهقه، إذ نعلم أولاً أن لا فرق بين الحكومة والقطاع الخاص (أم الكلب بعشوم) كما يقول المثل السائر، وندرك ثانيًا: أن مصطلح (محاصرة الدولار) ليس إلا كلمة حق يراد بها باطل لجهة أن (السيد الدولار) لا يمكن محاصرته إلا بطريقة واحدة (فقط لا غير)، طريقة لها أفرع وسياقات وشعُب أخرى، لكنها تظل واحدة لا ثاني لها، وهي غاية في البساطة لا تحتاج إلى (حمدي وبدر الدين) ولفيفهم وعديدهم وعتادهم وعدتهم، لا حل إلاّ (الإنتاج الكبير)، والإنتاج يقتضي محاربة السماسرة والوسطاء والمرابين والمحتكرين و(الحرامية) والطفيليين، كما يتطلب توفير مدخلاته وتخفيض والضرائب المفروضة عليه وتشجيع المنتجين الحقيقيين بدعمهم وإقراضهم بشروط ميسرة، وتخفيض الرسوم الجمركية على مدخلات الإنتاج الحقيقية وعلى الصادرات المحلية حتى تنافس عالميًا، وفتح الاستثمارات أمام رأس المال الأجنبي بشرط أن يُضخ في الزراعة بشقيها والصناعات التحويلية والقطاعات المنتجة أولاً، ثم القطاع الخدمي (تعليم، صحة، سياحة)، وهذا يتطلب تسهيل الإجراءات وتخفيض الضرائب، لكن قبل ذلك كله ينبغي ردع الفاسدين من المُعطلين والطاردين للاستثمارات والمستثمرين الأجانب من شاكلة (بتاعين الكوميشن والمرتشين) ومن هم ظهير لهم، كونهم سبب البلاء والغلاء والوباء.
إلى ذلك نتساءل: كيف يمكن لتلك (اللجنة) التي رحب بها وزير الدولة الدائم بالمالية (عبد الرحمن ضرار)، أن تحاصر وتكبح جماح الدولار؟، غير أن تردد ما قاله رئيس اتحاد أصحاب العمل سعود البرير: “إن ارتفاع سعر الدولار يؤدي إلى تآكل رؤوس الأموال، لذلك فإن التصدى له يعتبر مسؤولية وطنية”.
تلك لجنة لن تثمر عن شيء غير الخطب العصماء من عينة ما قال به ضرار والبرير أول أمس في حديثهما أمام البرلمان، إذ لم يقدما خطة تفصيلية توضح لنا كيف ستحتوي لجنتهم الموقرة، تُقرأ (الموكرة) إن شئت، تصاعد أسعار الدولار والسلع؟